أوروبا الشرقية.. الحيوية التاريخية والمراجعة الشاملة

كان اللقاء الفكري، الذى شاركت فيه بدعوة من أكاديمية فولوس اللاهوتية والاجتماعية حول: «الأرثوذكسية السياسية والشمولية فى عصر ما بعد الشيوعية» فى أوروبا الشرقية،(فنلندا ـ مايو 2015)،ثريا بالأفكار المركبة التى تتقاطع فيها العلوم: السياسية والاجتماعية والتاريخية واللاهوتية والفلسفية.

لم تكن الأفكار تحلق بعيدة عن واقع وحياة الناس. وإنما كانت فى صميم الواقع بملابساته وتعقيداته وعن الأطراف الفاعلة فيه ومصالحها وصراعاتها: المدنية، والدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والإقليمية، والدولية. وكانت تتسم بالزخم الشديد، ذلك لأن الأفكار المطروحة تتعلق ـ بصورة مباشرة ـ بمصائر وتطلعات مواطنى أوروبا الشرقية التى عانت على مدى عقود من الاستبداد. نعم كانت هناك انجازات مثلت قاعدة مادية أعانتهم فى تحمل فترة التحول التى طالت منذ تحطيم سور برلين، وتفكيك الاتحاد السوفيتي. إلا أن ذلك كان على حساب الحرية والتعددية والديمقراطية…وظنى أن ما ساد الندوة من زخم ما هو إلا تعبير عما يدور فى دول أوروبا الشرقية من ديناميكية تتسم بأمرين هما:

أولا: الحيوية التاريخية؛ فمن ير المشهد العام للندوة سوف يلحظ ـ فورا ـ أن متوسط عمر الحاضرين يتراوح بين: الأربعين والخمسين. وأن الكثيرين منهم قد تلقوا تعليما متميزا يتجاوز التخصص الضيق المدرسى العتيق المتخلف، إلى تعليم موسوعى يمزج بين: الشئون الدولية والدراسات الحضارية والثقافية والفلسفة وعلم الاجتماع واللاهوت. أخذا فى الاعتبار اطلاعهم على جديد الموجات المعرفية فى كل حقل من حقول العلم التى باتت متداخلة بصورة بديعة. خاصة هؤلاء الذين تعلموا خارج أوروبا الشرقية وانفتحوا على جديد العلم فى شتى الحقول المعرفية. ويشار هنا إلى دور معهدى سان سيرج وفلاديمير بفرنسا وأمريكا اللذين يعدان من أهم المعاهد فى هذا المقام. وتأسسا على أيدى اللاهوتيين والفلاسفة الهاربين من الاتحاد السوفيتى فى الثلاثينيات من القرن الماضى فى تأسيس تيار نقدى لاهوتى سياسى تقدمى رفيع المستوى…حيث تضافر ما سبق فى إشاعة حيوية فكرية تاريخية بحق.

وعليه كانت الأفكار تنطلق عميقة ومثيرة للجدل والتحدى بين الحاضرين. يضاف، أن كثيرا من الحاضرين ينخرطون فى منتديات مدنية ويتفاعلون مع الواقع الاجتماعى بدرجة أو أخرى. وسوف تجد البعض منهم يحمل فى وجدانه وذاكرته موجة «ربيع براغ ـ 1968» النضالية وما نتج عنها بعد أقل من عقد من الزمان ما عرف «بوثيقة 77» (دعا إليها الفيلسوف جان باتوتشكا من أجل أنسنة الاشتراكية. وقد توفى عقب 24 ساعة من التحقيقات الأمنية فى 1977). ومن بعدها تعددت الوثائق وتأسست الحركات والأحزاب والمنظمات ـوإلى الآن ـ فى روسيا وبلغاريا ورومانيا وصربيا والمجر من دول أوروبا الشرقية الأرثوذكسية وبولندا ولاتفيا وكرواتيا من دول أوروبا الشرقية الكاثوليكية. ما فرض حيوية تاريخية فعلية على المستويين: «الحركى والفكري»؛ ذات المضمون الراديكالى بامتياز…ما ينقلنا إلى السمة الثانية للديناميكية الراهنة فى أوروبا الشرقية التى تجلت فى ندوة فولوس.

ثانيا: المراجعة الشاملة؛أو عملية إعادة النظر والاجتهاد والتجديد فى القضايا محل الجدل التى تمس حياة المواطنين اليومية، وهى القضايا التى اعتبرها البعض ـ ممن يعادون التحول والتقدم ـ محسومة انطلاقا من أن الواقع ساكن ويجب أن يبقى على سكونه. وهو ما يعد غير صحيح فواقعة بوعزيزى التونسية كررها «فانتسيسلافكوزاريف(47 سنة) فى مايو 2013احتجاجا على سوء الأوضاع، كما تعددت حركات الاحتجاج الفئوية والطلابية،…،إلخ، فى كل بقعة فى أوروبا الشرقية الروسية. ما يعنى أن الواقع ـ على الرغم من النجاحات الاقتصادية ـ لم يزل مُحملا بالكثير المطلوب مقاربته بانفتاح وابداع فى آن واحد. ومن ثم لم يعد مقبولا ولا ممكنا مقاربة الواقع ومعالجة قضاياه بنفس النهج القديم.

لذا لم تكن الأفكار المطروحة من النوعية التى تندرج تحت الإجابات الجاهزة بقدر ما كانت أطروحات تضع تحديا ذهنيا وفكريا أمام المشاركين كى يختبروها ويشتبكوا معها ويختبروا مدى قدرتها على تغيير واقع مجتمعى بطيء التطور لنمط انتاجه التقليدى والسلطوى وثقافته/لاهوته الجامد.فى هذا السياق طرحت أفكار تتعلق بالقيم التقدمية المعاصرة التى يجب أن تتضمنها مناهج التعليم والتربية الدينية. كيف يتم تكوين جيل جديد مؤمن بالديمقراطية والتعددية بعد عقود من الشمولية وما يترتب على ذلك من تأسيس لاهوت التعددية وتعليم وثقافة داعمة. وكان الحوار من الجرأة ان يطرح تساؤلا حول الإعاقات البنيوية القائمة فى الفكر الدينى السائد ومدى تعايشه وتأثره بالاستبداد. وكيفية تحرير الفكر الدينى من هذه الإعاقات. ما الفرق بين السلطة الدينية المؤسسية والرعوية الدينية وعلاقة كل منهما بالديمقراطية. تجديد فكر فلاسفة ومفكرى المنفى الذين أسسوا لفلسفة متصالحة مع اللاهوت والسياسة والعصر والذين نفوا ـ قسرا أو طوعا ـ لمصلحة فكر فلاسفة الداخل الشموليين، ومن ثم إعادة الاعتبار إليهم. وكيفية تجديد المجال العام لاستيعاب التعددية الصاعدة التى تجاوزت باحتياجاتها المجال الدينى الخاص،…،إلخ…ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern