الدين والدولة فى أوروبا الشرقية

نهاية العام الماضي، وردت إلى دعوة من أكاديمية فولوسس للعلوم اللاهوتية والاجتماعية بفنلندا للمشاركة فى أعمال ندوة حول: الأرثوذكسية السياسية والشمولية فى عصر ما بعد الشيوعية سمع تخصيص جلسة حول زالدين والدولة فى المنطقة العربية بعد الربيع العربي.

وكان موعد اللقاء فى نهاية مايو الماضي. وظللت مترددا حتى آخر وقت فى قبول المشاركة خوفا من أن تسود اللقاء نقاشات دينية ضيقة. ولكن ما حسم قرار مشاركتى وشجعنى على المشاركة فى اللقاء عدة أسباب. الأول: هو بنية وموضوعات اللقاء وترتيبها المنهجى الحداثي. الثاني: المقاربات المبدعة لموضوعات شائكة ومعقدة حول: الدين والمؤسسة الدينية وعلاقتها بالقضايا الناشئة عن التحولات المجتمعية المتزامنة فى سياق أوروبا الشرقية. أخذا فى الاعتبار أننا نتحدث هنا عن واقع تدين اغلبيته بالمسيحية الأرثوذكسية. الثالث: الاجتهاد فى تطوير أطروحات مركبة تتداخل فيها العلوم السياسية والاجتماعية المعاصرة والفلسفة مع اللاهوت. الرابع: هو مراجعتى لخلاصات بعض من اللقاءات التى عقدت قبل هذا اللقاء والتى وجدتها جادة وجديدة ومبدعة فى معالجاتها ومتحررة من كل قيود. الخامس: هو محض شخصي، ان ألبى رغبة مكنونة للذهاب لفنلندا التى كانت وجهة رحلتى الأولى إلى أوروبا فى يناير 1984، أى قبل 31 عاما، وكانت وقتها تتحرك بحساب شديد فى ظل حيادية اختيارية بسبب وقوعها على حدود الاتحاد السوفيتى السابق. فى المحصلة، استشعرت أن هناك حيوية فكرية جديرة بالتفهم والتعلم، وديناميكية مجتمعية فى أوروبا الشرقية من المفيد الاطلاع عليها.

وللتدليل على ما سبق، نذكر بعضا من مساهمات اللقاء وذلك كما يلي: الأرثوذكسية السياسية: أيديولوجية، دين مدني، بدعة؟، واللاهوت بعد الخبرة الشمولية، ومفهوم الأرثوذكسية فى العلوم السياسية، والأمل فى التقدم والهلع من التجدد فى الخطاب الدينى المعاصر، والخطاب الدينى النقدى لبنى القوة المختلفة، سياسات الأخلاق فى الكنيسة الروسية ومقاربتها لحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان كتحد اجتماعى لاهوتى للممارسة والعقلية الأرثوذكسية، اللاهوت السياسى الروسى فى المنفى: برديائيف، وبولجاكوف، وأوراسيانس، والكنيسة والدوجما العالمية، المسيحية الأرثوذكسية والتعددية، المسيحية المشرقية والنظام الدولى الليبرالي، ومفهوم العالم الروسي، والتراث الكنسى والهوية، والديمقراطية والسلطة الكنسية والكنيسة،الكنيسة والعلمانية والليبرالية،…،إلخ…وكلها عناوين تعكس الديناميكية التى تعيشها أوروبا الشرقية منذ عقدين ونصف العقد…

فمنذ 1989 أى منذ سقوط حائط برلين، ومن بعده تفكك الاتحاد السوفيتي، دخلت أوروبا الشرقية أو الاشتراكية فى مرحلة تحول مركبة. بعض من هذه الدول استطاع أن يجتاز مرحلة التحول بنجاح وبأقل الخسائر مثل بولندا، وإن أخذت ما يقرب من عقد من الزمن لتتمم التحول الديمقراطي. بينما هناك دول لم تزل قيد التحول مثل: بلغاريا، والمجر، وروسيا،… إلخ. ونشير هنا إلى أن أوروبا الشرقية فى العموم ذات اغلبية مسيحية. إلا أن هناك دولا ذات أغلبية كاثوليكية مثل: بولندا، وكرواتيا (التى كانت جزءا من يوغوسلافيا السابقة). وهناك دول ذات أغلبية ارثوذكسية مثل: المجر وبلغاريا وصربيا، وروسيا بطبيعة الحال. ويبدو لى أن الدول التى كانت تنتمى للمنظومة الاشتراكية ذات الأغلبية الكاثوليكية استطاعت أن تعبر مرحلة التحول بيسر. وربما يرجع السبب الى أن لديها خبرة تاريخية فى ضبط المساحات بين ما هو زديني/مقدسس وسزمني/مدنيس. على عكس الدول الاشتراكية ذات الأغلبية الأرثوذكسية، وذلك لعدة اعتبارات منها:

أولا: اعتبار جغرافي؛ حيث إن حدود العالم المسيحى الذى كان، قبل اكتشاف أمريكا، يتوافق جغرافيا مع شمال غرب القارة الأوراسية (أوروبا وآسيا) والشرق الأدنى وشمال إفريقيا: الأرثوذكسي، مغاير للعالم الكاثوليكي. ثانيا: اعتبار يتعلق بالنمط الاقتصادى السائد فى كل مدى جغرافى وأثره على المجتمع و المسيحية القائمة. حيث ساد العالم الكاثوليكى نمط اقطاعى صريح منذ العصور الوسطى الجرمانية. بينما ساد ما يعرف بنمط الانتاج الآسيوى حيث الدولة هى الإقطاعى الحقيقي. وواضح تاريخيا يسر التحول فى الجغرافيا الإقطاعية. (يشار هنا إلى أهميةالتمييز بين الأرثوذكسية الشرقية Orientalالتى تضم الأقباط والأرمن والسريان وتتمركز فى المنطقة العربية ذات الأغلبية من المسلمين. وبين الأرثوذكسية المشرقية Eastern، وهى التى تضم أرثوذكسيات البلطيق والمتوسط: روسيا، والمجر وبلغاريا، وصربيا، واليونان،… إلخ. وقد كان لكل منهما رؤيته اللاهوتية، وإن كان تم تجاوز ذلك فى العقدين الأخيرين). ثالثا: اعتبار يتعلق بالهوية المركبة؛ ففى حالة روسيا مثلا سوف نجد أنها امبراطورية تاريخية ممتدة منذ توحدت القبائل السلافية الأوجرو ـ فنلندية فى القرن التاسع الميلادي. وجاءت الأرثوذكسية فى القرن العاشر الميلادي. وعليه تشكل مركب هوياتى يضم كلا من: القومية السلافية، والثقافة الأرثوذكسية، والوطنية الروسية تعتمد عليه الإمبراطورية فى ممارسة طموحاتها السياسية فى مساحة شاسعة: أوروبية آسيوية، ومن ثم تماهت الأدوار والمواقف،… إلخ.

فى ضوء ما سبق، شاركنا فى أعمال اللقاء. وكانت تجربة مفيدة للغاية أتاحت لنا أن نقترب من منظومة دول تحاول أن تموضع نفسها فى العالم الجديد. ومن ثم تتساءل وتجتهد فى تقديم إجابات مركبة رفيعة المستوى… ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern