نهاية الرأسمالية(5): كرامة المواطن وسعادته

فى 14فبراير 1998، كتب المفكر الفرنسى الكبير جاك لانج مقالا ـ يعد تاريخيا ـ حول المؤامرة التى “تحاك فى الظلام”، بفعل سياسات الليبرالية الجديدةضد مواطنى العالم…فما هى هذه المؤامرة ومدى خطرها؟ وكيف كانت الطريق ـ مرة أخرى ـ لتجديد المواطنة؟

يفصح جاك لانج فى مقالته بصراحة عن الفاعل الرئيسى فى هذه المؤامرة بأنه “منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية”. واصفا إياها”بالآلة الجهنمية لتدمير العالم”، لماذا؟…ذلك لأنها:” تتقدم بلا رحمة مثل القدر، بين كواليس المنظمات العالمية. وبعد أن أفسدت التجارة العالمية، ها قد بدأت تفسد الاستثمارات. فتحت اسم الاتفاقية متعددة الأطراف للاستثمار (والتى عرفت باتفاقية AMI أو الصديق بالفرنسية)، وضعت هذه المنظمة فى سرية كاملة، مشروعا هدفه غاية فى الوضوح: إطلاق حرية الاستثمارات المالية العالمية وتعميمها فى كل مكان، دون ضوابط أو قيود… ومثلما فعلت الجات من قبل وبعدها منظمة التجارة العالمية، لتكرس الهيمنة الأمريكية، وبنفس النمط من المسيرة التخريبية، التى تدمر تفرد الأمم وخصوصيتها الاقتصادية الوطنية”…وتبقيها تابعة بإزالة كل “العقبات فى طريق الاستثمار”…وفى ضوء ما سبق يدعو لانج(المثقف الفرنسى رئيس لجنة الشئون الخارجية فى الجمعية الوطنية الفرنسية ـ آنذاك ـ والوزير الأسبق)، “كل قوى التقدم للوقوف أمام اتفاقية “الصديق” لأنها ليست كذلك فهى العدو الشرس للكرامة والعدالة والإبداع والحرية،…،إلخ”…ما أسباب إطلاق لانج تحذيره؟

لأن هذه الاتفاقية من خلال نصوصها تعني: “استغلال قوة المال الساحقة، وجبروته المطلق، المال غير المنتج. وتعطى كل الحقوق للمستثمرين، وتلقى على الدول كل الواجبات والالتزامات. ومع الوقت، تنقل السلطة والصلاحية إلى أفراد، هم أصحاب المال وشركاته. ما يهدد السيادة الوطنية وتشريعاتها وحقوق المواطنين فى المجمل والتى نتجت بفعل نضالهم مثل: “ضمانات أجر الحد الأدنى، التنمية العادلة، المساواة فى الفرص بين الجميع بغض النظر عن أى اختلاف،التكافؤ بين الجميع فى تلقى خدمات عامة جيدة،…،إلخ. يضاف إلى ما سبق، أن الواقع أثبت أن رأسمالية السوق التى بدأ تطبيقها سنة 1980 قد أخفقت فى الحفاظ على المكتسبات التى حققها المواطن عقب الأزمة الاقتصادية فى الثلاثينيات من القرن الماضى وعنوانها الكبير: “المساواة بين الجميع”، وهو جوهر ما عرف “بالصفقة الجديدة” فى أمريكا.فلقدمحت الرأسمالية الجامحة عقودا من نضال المواطنين من أجل المواطنة وفى القلب منها المساواة بين من يملك ولا يملك…

كان تحذير لانج بمثابة جرس الإنذار الذى جدد “حركية” المواطنين: ثقافيا، ونقابيا، وطلابيا، وسياسيا، ومدنيا، وعماليا، وفلاحيا،…،إلخ، ليس فى فرنسا فقط وإنما على مستوى العالم من خلال تشكيلات متنوعة وطنية وعابرة للحدود ضد سياسات اقتصادية تضرب المساواة فى الصميم…لم تستسلم الرأسمالية الجامحة بل قامت بهجوم مضاد ونوعت فى تقديم المشروعات العابرة للحدود. كما طورت المؤسسات المالية من أدوارها لتمرير مشروعات تدعى ضمان حياة كريمة للقاعدة العريضة من المواطنين وتعد بالالتزام ببنود الصفقة الجديدة حول ضمان المساواة للجميع. ولكن توالى الأزمات المالية (200 أزمة تقريبا منذ الثمانينيات) وذروتها أزمة 2008، أثبت فشل هذه المشروعات فى تحقيق أى تقدم لأغلبية المواطنين. وفى المقابل زاد غنى الأغنياء. وتكون ما عرف بمجتمع الخمس الثرى فى مواجهة مجتمع “الأربع أخماس” المثقل بالديون وسوء السياسات الاجتماعية والاستهلاك المدمر،…،إلخ.

وعليه وبحسب أحد الباحثين فإن: “نزع الطابع الاجتماعي… والتسليع التام للحياة الإنسانية”، قد أدى إلى خلل فى الوضع العام للمواطنية بدرجة أو أخرى، وبدا المشهد الختامى وكأن دولة الرفاهية قد أصابها نمو غير متوازن أدى بالأخير إلى رفاهية البعض على حساب البعض الآخر… فاللامساواة والتفاوتات الحادة تفشت مرة أخرى ليس على المستوى الاقتصادى فحسب ـ أى بين الأثرياء والفقراء ـ وإنما امتدت اللامساواة لتشمل العلاقة بين الأجيال، والفئات المهمشة، وبين المدينة والريف، وبين المواطنين الأصليين والمهاجرين الجدد ،وبين المهاجرين أنفسهم بحسب جذورهم الاثنية…ولعل أحداث العنف المتكرر ضد الملونين فى أمريكا، وعدم قدرة أوروبا على استيعاب الوافدين من جهة، وانطلاق موجات الالتحاق بكتائب الدمار المتشددة من قبل أبنائها من جهة أخرى، كذلك الأزمة اليونانية، إنما تعكس مدى التناقضات الحادة والحرجة التى تواجهها الرأسمالية فى صورتها الراهنة: “الجامحة” ـ الفاشلة.

فى هذا السياق، نعود مرة أخرى إلى ديفيد هارفى فى كتابه:”17 تناقضا لنهاية الرأسمالية”، حيث يشير إلى أهمية نضال المواطنين من أجل حياة انسانية: كريمة وسعيدة. وأظن، أنه ليس صدفة أن الكرامة الإنسانية والعيش السعيد أصبحا من الشعارات الأساسية للثورات والاحتجاجات المواطنية فى كل مكان بالإضافة إلى العدالة والحرية. فالحياة الإنسانية لن تستقيم إلا بصفقة جديدة شاملة تعالج ما فعلته الرأسمالية الجامحة. هذا هو الجدل الكبير الدائر حول العالم… والسؤال كيف يحدث ذلك؟… ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern