نهاية الرأسمالية (3)...التناقضات المدمرة

«أظنك سعيدا بمقالات نهاية الرأسمالية خاصة مع تصاعد الأزمة اليونانية الأوروبية»… أجبت صديقي: «واقع الحال هذه ليست المرة الأولى التى أدق جرس الانذار فيها حول أزمة الرأسمالية الراهنة. فهناك دراستى المعنونة: أزمة السوبر رأسمالية ـ 2009»…

ولا ينطلق الموقف من الرأسمالية الراهنة من مجرد موقف أيديولوجي، بقدر ما ينطلق من الأخطار الجسيمة التى باتت تسببها «الرأسمالية الجامحة» فى أرجاء المسكونة. ما استدعى الكثيرون ممن يحسبون على الاقتصاد الرأسمالى فى التحذير من هذه الأخطار. وقد صنفنا هؤلاء إلى أربع فئات كما يلي: الفئة الأولى: ما أسميه مجموعة نوبل الاقتصادية؛ وأقصد بعضا من الاقتصاديين الذين حصلوا على نوبل للاقتصاد والذين قدموا مجموعة من الاجتهادات المعتبرة فى نقد السياسات النيوليبرالية مثل: أمارتيا سن(نوبل 1998)، وجوزيف استيجلتز (2001)، بول كروجمان(2008). الفئة الثانية: بعض رجال الأعمال مثل:جورج سوروس الذى ألف كتابا بعنوان: «أزمة الرأسمالية العالمية» The Crisis Of Global Capitalism. الفئة الثالثة: بعض المدافعين عن النموذج الرأسمالى وانتصاره الحتمى مثل فوكو ياما الذى ألف كتابا فى سنة 2004 بعنوان State Building، حيث أكد فيه أهمية دور الدولة ووظائفها وضرورة تقويتها واعتبار ذلك من المهمات الضخمة التى يجب الاضطلاع بها، كما عاد لاحقا من خلال دراسته نهاية الريجانية معلنا موت السياسات النيوليبرالية. الفئة الرابعة: تضم بعض السياسيين الذين عملوا فى الإدارة الأمريكية مثل روبرت رايش الذى عمل وزيرا للعمل فى إدارة كلينتون وألف كتابا بعنوان: «السوبر رأسمالية» (2007).

ولاشك أن هذه الموجة النقدية من داخل الخندق الرأسمالى قد شجعت أولا الحركات المدنية العالمية والتى عرفت «بمناهضة العولمة»، إلى تنظيم نفسها احتجاجا على «الرأسمالية الجامحة». وثانيا: ميلاد تيار فكرى اقتصادى جاد اعتمد البحث العلمى لتأسيس معرفى جديد ثرى ومتنوع نقدى للرأسمالية الجامحة وتناقضاتها المدمرة والتى لم تثمر إلا «تغييب العدالة بين البشر». وثالثا: الجرأة التى اتسم بها جيل السياسيين الجدد ممن اطلقت عليهم «يسار الثورة على ربطة العنق» (راجع مقالنا فى الأهرام حول حزب اليسار الحاكم فى اليونان (28 فبراير 2015)، على التحرر من التبعية، والاحتجاج على التزايد المستمر فى الفروق الطبقية والاجتماعية.

فى هذا السياق، يأتى كتاب ديفيد هارفي: «17 تناقضا لنهاية الرأسمالية»، الذى بدأنا نعرضه منذ أسبوعين. ففى البداية عرفنا القارئ بأهمية هارفى كباحث مجدد ومثقف موسوعي، وبكتاباته. ثم قدمنا تعريفه لمفهوم الأزمة، عموما، ولأزمة الرأسمالية، خصوصا. وأزمة الرأسمالية هذه المرة ليست أزمة «عابرة» وإنما «أزمة مزمنة ودائمة». وهذه الأزمة ليست فقط بسبب أزمة 2008، وإنما بسبب الإخفاق المنقطع النظير لما يعرف «بتوافق واشنطن» الذى تأسس فى 1990 بين المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وبنك التنمية الأمريكي،…،إلخ)، وأخذ على عاتقه فرض توجهات الليبرالية الجديدة وتعميمها فى بلدان العالم وما ترتب عليها من سياسات وإجراءات مالية، لم تؤد إلى إفقار هذه الدول وسقوطها فى مستنقع الديون، وفتح أبواب الدول للاستثمارات الأجنبية بامتيازات على حساب الاستثمارات الوطنية.وعليه توالت الأزمات مع هذه التدفقات المالية التريليونية التى كانت «تجور على حقوق من لا يملك» ما جعل «اللامساواة» هى الأزمة الأبرز.

على مدى هذه الرحلة المضطربة «للرأسمالية الجامحة»، بأزماتها المائتين»، أصابتها «تناقضات جوهرية» فى بنيتها تحول دون استمرارها. يشير هارفى فى كتابه إلى سبعة عشر تناقضا مصنفة إلى ثلاثة أقسام… وقبل أن نقدم هذه التناقضات، نشرح ماذا يعنى التناقض الذى حرص هارفى على تخصيص مقدمة الكتاب لتفسير معنى التناقض وتداعياته؟..

يقول هارفى إن التناقض يمكن أن نفسره من زاويتين هما: أولا: الزاوية الفلسفية: فبحسب منطق أرسطو، فإن التناقض يعنى التضاد أو ما يمكن أن نطلق عليه «الاختلاف البين». «فالأسود أسود والأبيض أبيض». ثانيا: الزاوية المجتمعية الديناميكية: فإن التناقض يحل عندما تتعارض المصالح بين القوى المجتمعية ويحدث اختلال توازن بينها. ويبدأ هذا التعارض يؤدى إلى خصومة أو صراع يمتد إلى كل العمليات الاجتماعية الدائرة، وبين الكيانات القائمة. وعندما تصل هذه التناقضات إلى درجة يصعب التوفيق بينها وبين الواقع وعليه تحل الأزمة. الأهم هو إدراك أن لحظة الأزمة التى نعيشها/تعيشها الرأسمالية، بحسب هارفي، هى لحظة خطر كونية حقيقية لأن رأس المال يقع تحت تهديد تناقضات عديدة تعجز معها عن أن تنتج جديدا.ومن ثم تكون مدمرة.

ويشير هارفى فى مقدمته أنه قد آن الأوان أن نراجع كل ما كنا نقبله تاريخيا فى مجال الاقتصاد خاصة إذا ما اتسمت بالتناقض. فالمال الذى كنا نودعه وننتظر فائدته المركبة، كى نحصد زيادة «ما» بعد وقت على ما أودعناه فى البداية، لماذا يكون أكثر من معدل نمو الدخل. وهنا لابد من التساؤل هو أى قوى تنتج هذا التناقض وتبقى عليه؟… من حصيلة هذه الملاحظات يبنى هارفى أطروحته ويرصد تناقضاته الـ17 التى نعرض لها تفصيلا…ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern