نهاية الرأسمالية .. (1)

فى الآونة الأخيرة بت حريصا على تلبية الدعوات التى تصلنى للمشاركة والمساهمة فى الندوات الفكرية خارج مصر، لسببين. الأول:الرغبة العارمة فى «اكتشاف» الدنيا الجديدة الآخذة فى التشكل وفق نموذج معرفى مغاير مختلف جذريا وكليا بفعل نقد ما هو مستقر كسمة أساسية من سمات بقاء المجتمعات حية. والثاني: هو «الاطلاع» على نجاحات وإخفاقات الغير فى مقاربتهم لواقعهم بإشكالياته المختلفة.

فى هذا السياق، كنت أنتظرفى مطار ميونيخ الطائرة التى تقلنى عائدا إلى القاهرة. فدخلت أحد الأكشاك التى تبيع الصحف والدوريات والكتب الحديثة الإصدار، وعلى رغم بساطة هذه الأكشاك فإنها تؤمن «أشكال وألوان»، من الدوريات المتخصصة فى كل شيء. ففى الموسيقى تجد دوريات عامة وأخرى متخصصة فى موسيقات: البوب، والجاز، والكلاسيك.. إلخ. ودوما هناك مكان للكتب الأكثر مبيعا والتى تخصص للكتب الجماهيرية نسبيا مثل: كتب مذكرات المشاهير، وكتب المناسبات التاريخية كالتى صدرت العام الماضى بمناسبةمرور مائة سنة على الحرب العالمية الأولي.. إلخ.

فى هذا الموضع وجدت كتابا عنوانه: «17 تناقضا ونهاية الرأسمالية». ترددت كثيرا فى شرائه لأننى ظننت أنه قد يكون من الكتب ذات الطابع التجارى أو السياسى الدعائى ما جعله رائجا ومن الكتب الأكثر مبيعا وأنه قد يكون ردا متأخرا لكتاب فوكوياما نهاية التاريخ الذى تراجع عنه فى دراسته نهاية الريجانية بعد 20 عاما. ولكن ما أن تصفحت قائمة محتوياته وجدتنى أمام عمل علمى مرجعى كبير حول بنية الرأسمالية الراهنة. فبادرت بشرائه.

وبعد أن بدأت أقلب صفحات الكتاب اكتشفت أن مؤلفه هو «ديفيد هارفي» (1935 ـ )، صاحب الإمبريالية الجديدة (2003)، و«الليبرالية الجديدة: تاريخ مختصر (2005)، وحالة ما بعد الحداثة» الطبعة العربية ـ 2005). وهى الكتب التى تعرفت من خلالها على ديفيد هارفى واستفدت منها فى كتابى «الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الدين والثروة والقوة» ـ 2003). كما استفدت منها فى دراستين نشرتا فى الأهرام الاقتصادى عام 2009 هما: «قصة الليبرالية الجديدة» و«أزمة السوبر رأسمالية»… والقارئ لهارفى يدرك أنه أمام مثقف موسوعى من الطراز الرفيع.وهو يعد من أهم المنظرين/ الباحثين الموسوعيين المعاصرين للواقع الاجتماعى والاقتصادى والسياسى الراهن.

فلقد عمل أستاذا للجغرافيا السياسية. كما عمل أستاذا للأنثروبولوجيا فى جامعات: أُكسفورد، وجون هوبكنز، وسيتى بنيويورك. واستطاع هارفى بحكم دراساته المتنوعة أن يقوم بالتشبيك بين الجغرافيا والنظرية الاجتماعية والاقتصاد السياسى فى الحضر، ودراسة التمدن بالدول الرأسمالية، وحقوق المواطنين فى المساواة فى حيز مكانى فى إطار عمارة وتخطيط عمرانى عادل، وفى العدالة الاجتماعية فى العموم وفى علاقتها بالمدينة، كما له دراسات مرجعية حول ما بعد الحداثة وعلاقتها بالرأسمالية.

كما خصص كتبه الأخيرة لنقد الرأسمالية منها: «لغز رأس المال وأزمة الرأسمالية» (2010)، و«المدن المحتجة أو الثورة الحضرية» (2012) وأخيرا «نهاية الرأسمالية» (2015). وعليه فإن معنى أن يباع الكتاب فى المطارات وفى قسم الكتب الأكثر مبيعا فعلينا أن ننتبه. وان نضم هذه الأطروحة مع أطروحات أخرى ذكرنا بعضها كأمثلة باعتبارها تمثل تيارا فكريا جديدا نقديا لبنية الرأسمالية المعاصرة. ومن ثم دراسة أفكار هذا التيار التى أظنها تمثل أسس عصر جديد لا أظن أننا ندرك بعد أنه قيد التشكل، لأنه يتم بنعومة شديدة. على اعتبار أن الابتكار والتجديد هو آلية تعمل بشكل مستمر ولا تتوقف وليس لها سقف فى زمن تضاعف المعرفة وتجدد التكنولوجيا. فزمن «وجدتها» على طريقة أرشميدس حيث الاكتشاف والابتكار يحتاج إلى أزمنة حتى يحدث ومن ثم تتهلل البشرية «وجدتها» قد تجاوزناه كليا.

هذه مقدمة أظنها ضرورية لتقديم كتاب هارفى للقارئ المصري. وهو كتاب ليس بحجم كتاب رأس المال لبيكيتي، فهو من القطع الصغير ويقع فى ما يقرب من 350 صفحة. ينطلق هارفى من رصد اللحظة الراهنة والتى يرسمها كما يلي: الركود الاقتصادى الذى بدأ منذ مطلع 2001، ولم يزل مستمرا، يواكبه تنام لظاهرة البطالة، والشركات العملاقةـ والتى يصفها بالإمبراطوريات ـ أخذ البعض منها ينحل ويتفكك وتنفضح الكثير من أسراره غير النظيفة. كما فشلت أنظمة عريقة فى ضبط أسواق المال.

فهبطت قيم الأسهم والسندات إلى درجات مرعبة. وتدهورت قيمة صناديق التقاعد إلى ما يقرب الثلث فى غير مكان كما حدث فى إحدى شركات النفط. كما لم تزل الرعاية الصحية موضع صراع بين الشركات الاحتكارية والمواطنين. وعدم قدرة الأنظمة السياسية حتى فى الدول الديمقراطية فى أن تلعب دورا تدخليا حاسما وصارما لتنظيم الأسواق وضبط جنوح السلوك الاحتكاري… إلخ. إنها لحظة مؤلمة لأنها لم تنتج سوي: «اللامساواة المجتمعية» فى كل المجالات. ما يعنى ضرورة المراجعة وإعادة النظر.

مما سبق، يبدأ هارفى فى توصيف أزمة الرأسمالية المعاصرة لأنها باتت تتضمن سبعة عشر تناقضا…وبعد أن يعرف معنى التناقض، يصنف هذه التناقضات.. ونتابع.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern