يسمح لى القارئ الكريم أن أستعيد هذا العنوان الذى استخدمته من قبل عنوانا لدراسة مطولة حول طبيعة اللحظة الراهنة التى نمر بها…اجتهدت بإخلاص أن أبدع جديدا، انطلاقا من التحدى الذى يواجه أى كاتب فى ألا يكرر نفسه وضرورة أن يجتهد فى أن يقبض على ثمين الأفكار دوما.
وعليه حاولت أن أجرب التفكير فى عناوين أخرى منها: “قديم يتآكل وجديد يتشكل”، و”عالم قديم يحتضر وآخر جديد لم يولد بعد”، و”بين عالمين”،…،إلخ. ومع كل عنوان جديد كنت أظن اننى ارتاح لاستخدامه أجدنى أعود مرة أخرى للعنوان الأول الذى استخدمته من قبل…ولأننى لم أتعود الاستسلام بسهولة وخاصة فى مجال الأفكار. حاولت أن أتلمس تفسيرا لذلك. هل هو استسهال؟، أم حميمية مشاعرية لعنوان مبتكر وفيه جرس ما؟ أم لأسباب موضوعية؟…
واقع الحال، وبعد تأمل عميق تيقنت أن العنوان الذى فرض نفسه بقوة علي، إنما يعكس بدقة شديدة جوهر المشهد المجتمعى الراهن الذى نعيشه. والذى يمكن أن نلخصه بأنه يشهد: “لحظة تحول كبرى بامتياز”…لحظة تتسم بالخصومة الشديدة بين قوى قديمة وأخرى جديدة…من حيث “تفعيل” التحولات بما يعبر عن أحلام المؤمنين بالجديد، أو “تعطيل” التغيير وفق أنصار أن القديم بما يحمل من قيم وبنى هو الأجدر بالاستمرار من أجل الاستقرار…ويزيد من ضراوة المشهد هو أن كلا من القديم والجديد يستند إلى ما يدعمه ماديا. ويتنوع هذا الدعم فيما يلي: قوى اجتماعية: اقتصادية، وجيلية،…،إلخ، ومنظومات قيم ثقافية، ومؤسسات وحركات متنوعة…ما يدفع بهما إلى صراع مفتوح، ينازع فيه القديم من أجل البقاء، ويصارع فيه الجديد من أجل الارتقاء…كيف؟
ينطلق الصراع من قناعة لدى قوى القديم، تتمسك بأنها لم تزل لديها الصلاحية و الحق فى تحديد مسارات ومقدرات المجتمعات والشعوب. وبين قوى بازغة ترى فى نفسها القدرة على مقاربة الواقع من منظور مغاير، خاصة مع استنفاد القديم أغراضه فى تصورها. وتدلل كل منظومة على موقفها بالآتي: القديمة؛ بأنها لم تزل تتحكم فى الكثير من البنى ولديها القدرة المادية التى تمكنها من الاستمرار. والجديدة؛ بأن هناك تغيرات فى أرض الواقع حادثة، ومستجدات آخذة فى التشكل لابد من الاستجابة المبدعة لها. خاصة أن القديم قد فشل تاريخيا فى تقديم “استجابات” متجددة ومتنوعة وشاملة لتطلعات المواطنين…
فى هذا الإطار، فإن كثيرا من الظواهر والإشكاليات والنقاشات/السجالات التى نراها تحيط بنا هى تجسيد عميق للعلاقة الصراعية بين القديم والجديد، والتى يمكن أن نرصد بعضا منها كما يلي: أولا: تشكيك القديم فى شرعية يناير وكأنها لم تكن فى مواجهة جديد لديه ما يبرهن على أن يناير كانت ضرورة. ثانيا: قديم لم يزل متمسكا بأبوية استبدادية وجديد يعلن كل يوم سقوط هذه الأبوية لصالح ديمقراطية مجتمعية. ثالثا: قديم لم يزل يستعيد توجهات وسياسات قديمة وبالأخص فى المجال الاقتصادى وجديد يرى أن الزمن تجاوزها والعالم يراجعها كما أنها فى الحقيقة لم تنجح لعقود فى تحقيق أى تقدم لذا كانت العدالة الاجتماعية والعيش الكريم من شعارات يناير الأساسية. رابعا: قديم يطرح تصورات حول أزمات المجتمع ذات طابع قيمى وثقافى قد تكون صحيحة ولكنها جزئية فى مواجهة واقع جديد بات يفرض نفسه بسبب التنمية غير المتوازنة وتوزيع الثروة غير العادل ومن ثم إعادة الاعتبار إلى الصراع الاجتماعى باعتباره عنصرا حاكما لا يمكن التغافل/التغاضى عنه مهما طال الزمن. خامسا: قديم يقبل بنصوص وأشكال الحداثة: دستوريا وقانونيا ومؤسسيا، وجديد يريد أن يرى النصوص حية والمؤسسات فى خدمتها خاصة التى تنادى بالمساواة فى المواطنة بين الجميع. سادسا: قديم تعود على التستيف والتسكين والتجميل وتسمية الأمور بغير مسمياتها حفاظا على أمن الوطن فى مواجهة جديد يضع الحقائق عارية بلا تحفظات…،…،إلخ.
وأظن ان القيادة السياسية ـ وبمراجعة خطابها السياسى ودعواتها المتكررة للأخذ بالجديد ـ سعت أن تتم إدارة هذه العلاقة الصراعية بين القديم والجديد فى إطار سلمى ييسر الانتقال والتحول بما لا يخل بقوام الدولة المصرية التاريخى وهو أمر لابد أن يؤخذ فى الاعتبار…إلا أن التناقض الحاد بينهما، وهو الحقيقة الوحيدة التى يمكن أن نستخلصها، بات عبئا علينا بالرغم من إيجابية انكشافه لأنها تفتح المجال أمام نقاشات جدية متعددة المستويات…فى هذا السياق تأتى التصريحات التى أطلت علينا مؤخرا والتى لا تتفق مع تحولات كبرى انطلقت بفعل حراك يناير وتمرد يونيو، ولا مع الرغبة فى بناء دولة المواطنة، ولا مع تقاليد مراحل التقدم التى عرفها مجتمعنا فى الدولة الحديثة بالرغم من قصرها، ولا مع خبرات من سبقنا…حيث تعود بنا إلى زمن مقولات أفلاطون حول “حراس المعبد” وهى ثقافة تتبناها دوما قوى القديم فى أى مجتمع…إلا أن التجربة التاريخية تقول إنه تم تجاوزها…ونتابع…