أتانى صوت صديقى عاليا قائلا: هل لا يزال لديك ما تكتبه عن أمة العباقرة: الهند…سعدت بسؤاله. لأن ذلك يعنى أنه يتابع ما أكتب عن التجربة التنموية الهندية وأنها أثارت لديه فضولا لفهم عمق هذه التجربة…أجبت صديقي: نعم، فهى تجربة ثرية وملهمة…لماذا؟
لأنها التجربة التى نجحت فى أن تجعل من الأرض الهندية بجهاتها الأربع موضعا لحزمة المعرفة والعلم والتعليم الحديث والابتكارات. فقامت بتوطين هذه الحزمة فى عقل ووجدان كل مواطن هندي. كذلك فى منظومة القيم الثقافية الهندية. وعليه باتت توصف الهند بالفراشة العبقرية، بالرغم من الثقل السكانى المليارى شديد التنوع (17 لغة و22.000 ألف لهجة بالإضافة إلى حضور بارز للديانات وللعقائد الرئيسية).. فى وجود كتلة سكانية فقيرة تقترب من 300 مليون نسمة. والأهم أن هذه التجربة قامت على الشباب ليس كقوة حيوية وإنما كقدرة ذهنية وعقلية فتحت أمامها مساحات متنوعة فى شتى المجالات العلمية والتكنولوجية كى تبدع وتبتكر، وتفرض نفسها، بل وتهيمن على مسار التقدم داخل الهند وخارجها فى أدق العلوم والتطبيقات العلمية وأحدثها.
بدأ الأمر كما شرحنا فى مقالنا السابق، بنشر ثقافة ممارسة الألعاب الذهنية والتى استطاعت أن تجعل من كتلتها الشبابية كوادر علمية قادرة على الابتكار فى شتى الميادين، وأن تتفوق على شباب الدول المتقدمة…وكان المدخل هو استثمار الجيل واي:why، أو جيل التساؤلات فى انطلاقة الهند العلمية والمعرفية…كيف؟
مرت هذه العملية بثلاث مراحل وذلك كما يلي: المرحلة الأولى: ما أن أدرك المعنيون بأن الشباب أصبح يمثل غالبية المجتمع الهندي. حتى بدأ الاهتمام به وبتوجهاته وممارساته وإلى أى مدى تحمل من تغيير. فاكتشفوا، أن هناك تحولا نوعيا قد طرأ على جيل الشباب منذ ما قبل مطلع الثمانينيات. لعل أهم ملمح فيه هو أن جيل نهاية القرن العشرين كثير الانشغال بطرح الأسئلة. فهو لم يعد يقبل ما يطرح عليه من إجابات سابقة التجهيز، أو يتلقى معرفة قد تجاوزها الإبداع الانسانى بمراحل. وأن جيل واي، يطمئن إلى أن يبحث عن جديد المعرفة بنفسه. فالمعرفة لا قداسة ولا ثبات فيها فهى متجددة وتتضاعف بشكل لم يعرفه تاريخ البشرية من قبل. من هنا وصف هذا الشباب بالجيل واي. وحرص الباحثون على التمييز بين الجيل واى وبين شباب جيل الستينيات فى أمريكا وأوروبا، الذى اتسم بأنه جيل الرفض والاحتجاج، الذين أطلقوا شعار: المنع ممنوع. وعليه أطلق الباحثون الهنود على هذا الجيل من الشباب او من يتمثل هذه المرحلة جيل إكس…وهم بذلك ميزوا بين زمنين، وجيلين…
وأصبح السؤال كيف يمكن استثمار تساؤلات جيل الشباب المعاصر فى تقدم الهند. من هنا بدأت المرحلة الثالثة والتى اعتمدت على فتح ميادين المعرفة والعلم المتنوعة أمام الشباب من جيل التساؤلات بهدف توظيف الطاقة التساؤلية ـ إن جاز التعبير ـ لديهم فى تكوين خبراء مبتكرين فى شتى المجالات. ويتم ذلك من خلال دمجهم كعناصر أصيلة فى منظومة العلم والمعرفة والتكنولوجيا والتى تتعدد عناصرها فى الآتي: الكليات الدراسية عالية المستوى العلمي، المعاهد التكنولوجية المنتشرة فى ربوع الهند، وأقسام البحث والتطوير بالشركات الهندية الرفيعة المستوى التقنى مثل تاتا، القرى العلمية المتخصصة،..،إلخ. وربط ما يبتكرون بواقع المجتمع الهندى أولا. وبالمنافسة بمعناها الواسع مع العالم المتقدم. (ونشير هنا إلى أن أكثر من 125 شركة عالمية ـ من أصل 500 شركة هى الأهم عالميا ـ لديها مراكز أبحاث وتطوير فى الهند حاليا).
فى هذا المقام، نذكر ما صاغه أحد علماء الهند حول جيل التساؤلات. حيث قال: هو جيل تعمل عقولهم مثل مظلة الهبوط؛ بمجرد فتحها، وتبتكر ابتكارات جميلة…ونتيجة لذلك يتوقعون فى الهند وفق معطيات شديدة التعقيد والدقة بأنه: مع مطلع 2020 سوف يجد العالم أن ثانى أفضل تطبيق يُطور فى أى منصة فى أى تكنولوجيا إما تربطه صلة بالهند وإما هو هندى بالمنشأ، أو ربما ترى اختراعا هنديا يقلب الموازين وكل ذلك سيكون بواسطة جيل التساؤلات…وبالطبع سوف ينعكس ذلك على الاقتصاد الهندى من خلال التنمية الشاملة الممتدة إلى كل القطاعات بنسب نمو تقترب من 10% فى كل من قطاع الزراعة (أخذا فى الاعتبار أن 60% من إجمالى قوة العمل تشتغل بالزراعة). وقطاع التصنيع وقطاع الكهرباء،…،إلخ. كما يشار إلى أن جنرال موتورز استوردت وحدها (نهاية 2010) قطع غيار سيارات من الهند بما قيمته مليار دولار… وعليه سوف يكون الاقتصاد الهندى الثالث فى العالم، مع قدوم 2050 (متقدما على الإيطالى والبريطانى والياباني)…
نجحت الهند فى أن تتبنى مشروعا تنمويا متكاملا. ينطلق من رؤية شاملة لما يجب أن تكون عليه الهند. والمشروع التنموى أعقد بكثير من مشروعات النمو المتناثرة والمجزأة هنا وهناك. وخبراء الابتكار يختلفون بالكلية عن خبراء الاجترار والرطانة…إن قصة الهند فى التحول إلى أمة من العباقرة قصة جديرة بالدراسة لأنها تحمل الكثير…ونتابع…