يجب على كل مواطن هندى أن يشارك فى تنمية الفكر العلمي»؛ إنها أحد المبادئ الدستورية التى وردت فى الدستور الهندي. حيث استطاعت الهند، ليس فقط أن تجعلها حقيقة، وإنما أن تحول الهند إلى «أمة من العباقرة»… كيف؟
تروى هذه القصة «أنجيلا سايني» فى كتابها المعنون: «أمة من العباقرة» وكيف فرضت العلوم الهندية هيمنتها على العالم؟ (صدر بالإنجليزية فى 2012، وترجم فى سلسلة عالم المعرفة وصدر منذ أيام). إنها قصة كفاح أمة من الكادحين الذين قرروا أن يواجهوا واقعهم الشديد التعقيد بالعلم. يعرض الكتاب تفصيلا لهذه القصة. قصة تجبر من يتعرف عليها أن يحترمها ويقدر أبطالها. لأنها قصة أمة استطاعت أن تجعل العلم متاحا لمواطنيها جميعا والذين يتجاوزون المليار نسمة.الأكثر أن تجعل الابتكار «حقا وواجبا» للمواطنين الهنود. وفى المحصلة قدرة فائقة على اقتحام شتى المجالات العلمية فى آن واحد. ومن ثم نهضة علمية ومعرفية وتكنولوجية عبقرية.
قامت هذه النهضة على أربعة مقومات أساسية. الأول: هو جعل العلم قيمة أساسية فى منظومة القيم الثقافية الهندية. ففى ستينيات القرن الماضى قرر بعض المواطنين أن يخصصوا مساحة من أحد أماكن العبادة ليكون «مذبحا للعلوم»، بحسب ما جاء فى اللوحة التذكارية التى علقت على يسار المدخل لأحد أهم الأماكن التى خصصت لأبحاث الفضاء. وهكذا بات «العلم بمنزلة الإيمان بما يستحقه من تقدير»، دون انتقاص من قيمة الدين. وعليه نجحت الهند فى جعل مواطنيها يفكرون بطريقة أكثر عقلانية فى حياتهم اليومية. وأن يكون المنهج العلمى محددا وحاكما للهنود فى كل مقارباتهم.
ثانى المقومات، الإرادة السياسية وجعل الانجاز فى مجال العلوم أحد معايير النجاح السياسى وهدفا من أهداف التنمية الوطنية. كانت البداية مع جواهر لال نهرو أحد الكاريزمات السياسية فى القرن العشرين، عندما رأى فى نهاية الخمسينيات كيف أن «الاتحاد السوفيتى آنذاك ـ قد نجح فى تحقيق قفزات صناعية واسعة من خلال وضع خطط خمسية جزئية لتشييد مصانع جديدة ومحطات لتوليد الكهرباء وسدود عملاقة. كما علم أن الولايات المتحدة الأمريكية جعلت من نفسها قوة اقتصادية قامت على أسس العلوم الهندسية المبدعة». وعليه أعلن أن «المستقبل للعلم ولمن يتخذون العلم صاحبا». ومن ثم أسس مجلس الأبحاث العلمية والاقتصادية ورأسه. ويعد هذا المجلس أكبر هيئة منتجة فى مجال الأبحاث والتنمية فى الهند. وكان نهرو ومعه النخبة الهندية على وعى بأن نجاح الهند فى تحقيق نهضة علمية لا يعنى جعل الهنود يكرسون وقتا أكبر للاشتغال بالعلوم. أو تأسيس جامعات تقوم بتخريج تكنوقراط غير مبدعين. وإنما توظيف العلم بإبداع يمكنهم من ابتكار تقنيات متجددة.
فى هذا السياق، عمل نهرو ـ خريج كامبريدج ـ مع فيكرامسرابهاى دارس الفيزياء فى كامبريدج، مؤسس برنامج الهند للفضاء، والذى أطلق اسمه على مركز أبحاث الفضاء بقرية ثومبا، على دعم وتشجيع الشباب النابهين على بناء قاعدة الهند للانطلاق العلمي.
أما عن المقوم الثالث فهو: الالتزام بالمعدلات العالمية الخاصة بالنسب المطلوبة للاستثمار فى مجال البحث العلمى سابقة الكثير من الدول المتقدمة. وتالية لليابان والولايات المتحدة الأمريكية.
وأخيرا المقوم الرابع: كان هناك الإدراك بضرورة ربط التقدم العلمى بالواقع الاجتماعى ومحاولة مواجهة مشكلاته وتطويره وفق العلم. لذا قال نهرو فى عام 1960 فى أحد خطبه أن «العلم وحده هو القادر على حل مشاكل الجوع والفقر، ونقص الصرف الصحى والأمية، ومشاكل الخرافات والعادات والتقاليد الخاطئة،…، إلخ،…».
وبعد ربع قرن استطاعت الهند أن تقتحم كل المجالات العلمية وأن تتفوق فيها. وأن يكون لها كوادرها العلمية وقاعدتها المعرفية المسجلة باسم مبدعيها ـ فى الداخل الهندى والخارج الدولى ومؤسساتها التكنولوجية، فى شتى المجالات: الفيزياء، والوراثة، والفضاء، والزراعة، وبناء السدود، والبرمجيات،…، إلخ… وفى المحصلة، أصبحت الهند ـ بالفعل ـ قوة علمية عظمى فى عالم اليوم.
ويكفى أن نشير إلى أن الهند فى هذه اللحظة باتت تجنى ما يقرب من 20 مليار دولار فى السنة نتيجة أنها البلد الثانى فى العالم انتاجا/تصديرا «للسوفت وير». كما أنها استطاعت من خلال تجاربها العلمية وابحاثها دائمة التطوير أن تحقق الاكتفاء الذاتى فى الانتاج الزراعي. كما انها تنتج المواد الفاعلة لأدويتها…
وعليه لم تعد الهند الفيل الذى يقفز نحو المستقبل ـ كما وصفناها مرة مبكرا وهو وصف استخدمته الإيكونوميست لاحقا فى تقديمها للتجربة الهندية ـ وإنما باتت «فراشة عبقرية تحلق» فى اللحظة التاريخية الكونية الراهنة…إن ما قدمناه عاليه ما هو إلا مفتتح قصة «أمة العباقرة الهندية»… وللقصة بقية مذهلة شديدة الثراء… ونتابع…