خصصت دورية «فورين أفيرز» الأمريكية الشهيرة والمؤثرة، عددها الصادر منذ أيام «لقضاياـ متاعب ـ العرقية والإثنيات» فى المجتمعات الغربية…
وتعد هذه القضية إحدى أهم القضايا التى شغلت ولم تزل تشغل العقل المعرفى العالمى من جهة، والأنظمة السياسية المختلفة من جهة أخرى.
فمنذ عرفت المجتمعات الغربية موجات الهجرة المتعاقبة المتزايدة إليها، وتحديدا بعيد الحرب العالمية الثانية. اهتم العقل البحثى الغربى بكيفية دراسة هذه الظاهرة من حيث المبتدأ، وثانيا كيفية التعاطى مع الجماعات المختلفة والمتباينة الوافدة من شتى قارات الأرض، وثالثا دراسة كيف يمكن «إدماجهم» فى مجتمعاتهم الجديدة فلا يصيروا بعد جماعات منعزلة وإنما مواطنون فاعلون. بالطبع لم يكن الأمر سهلا وخاصة مع وجود المقاومين من القوميين المتطرفين الذين دأبوا على رفض هؤلاء الوافدين الجدد من ذوى الانتماءات الاثنية المغايرة: اللونية، واللغوية، والدينية، والعرقية،… إلخ، والنظر إليهم نظرة دونية وحرمانهم من الكثير من حقوقهم.ما أعاق البعض، وخوف البعض الآخر، وآخر البعض الثالث، وخلق تحد وإصرار لدى البعض الرابع، فى خوض معركة الاندماج المجتمعى والمساواة مع المقاومين والمرحبين على السواء.
وأثبتت العقود الستة الأخيرة (1945 ـ 2015)، أن قضية «الجماعات الاثنية» لم تزل قضية ساخنة ومشتعلة. كما أن الدول الغربية: كالولايات المتحدة الأمريكية، وبعض دول أوروبا التى فتحت الباب على مصراعيه لاستقبال الجماعات الاثنية مثل: المانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والتى ظنت فى أنها قد نجحت فى حل الإشكاليات المتعلقة بهذه الجماعات للاندماج فى مجتمعاتهم. فإذ بها تكتشف أن محاولات الإدماج ـ بالطبع ليس بالمطلق ـ تحتاج إلى مراجعة. خاصة وأن هناك بعض هذه «الجماعات الاثنية الوافدة»، لم يزل يعتبر نفسه فى مواجهة مع «المجتمعات القومية المُستقبلة»… ما دفع البعض من الباحثين المعتبرين فى أن يصف حصاد هذه الدول بعد ستة عقود فيما يلى: «مجتمعات متشظية، وأقليات/ جماعات فى غربة، ومواطنية مستاءة؛ وبالأخير دولة قلقة»…
وعليه كان السؤال الرئيس الذى طرحته «فورين أفيرز» من زاويا عدة: «هل فشلت فكرة وقيمة التعددية الثقافية» Multiculturalism؟… وأظن هذا السؤال سيكون فى مقدمة النقاشات الموسعة خلال السنوات القليلة القادمة فى إطار المراجعات الكونية التى تتم «بنعومة» لرسم الصورة الكلية لمستقبل المنظومة العالمية خلال الأعوام الخمسين المقبلة، وما تضم من دول. فالدولة فى ظل المنظومة العالمية القديمة التى تأسست مع معاهدة وستفاليا فى 1648، قامت على قاعدة «قومية الدولة» حيث التجانس والاستقلال والسيادة بالأساس والمساواة بين الدول انطلاقا من المساواة الداخلية لكل دولة على حدة. ويقينا وبعد موجات الهجرة المتتالية وما لحق بهذه المجتمعات من «تشظى مجتمعى» و«تمزق نسيجى»، ما أدى إلى تنامى الجماعات الاثنية المغلقة وغير المنفتحة على المجتمع ولا تؤدى ما عليها نحو الدولة وفى نفس الوقت تزاحم «المواطنون الأصليون» فى حقوق المواطنة بأبعادها المتنوعة. ما استلزم الإبداع فى مقاربة أوضاع «الجماعات الاثنية» بطريقة أخرى أو ما بات يطرح فى الأروقة المعرفية والسياسية بالمقاربة «الاستيعابية» أو Assimilationism.
لذا بدأ طرح أسئلة كثيرة ـ فى كثير من المحافل وعلى عدة مستويات ـ منها: كيف ستدير الدولة مجتمعاتها بما تحمل من تنوعات…وكيف يتم التعاطى مع الجماعات الاثنية التى لم تزل تصر على عزلتها واستقلالها عن المجتمع الذى تعيش فيه… وكيف يتم تشجيع هذه الجماعات أن تطور من علاقاتها فلا يقف الأمر عند حد الحضور الوظيفى… أى الاستفادة من مزايا الدولة الصحية والتعليمية ثم إعطاء الظهر لها… وكيف يمكن للدولة أن تطور من سياساتها وآلياتها المجتمعية فى إعادة «لضم» الوافدين كأفراد وليس كجماعات اثنية متجانسة فيما بينها، بسبب وحدة اللون/الدين/العرق/الأصل القومى بما يفصلهم عن المجتمع الجديد… وهل يمكن أن يتحركوا فى هذا المجتمع الجديد كأفراد يقبلون ثقافته دون أن يخل هذا بقناعاتهم ومعتقداتهم كأفراد… وهل يحقق ذلك «التماسك المجتمعى» المطلوب. بلغة أخرى لم يعد مقبولا أن تستمر الجماعات الاثنية مغلقة على نفسها دون انفتاح حقيقى على مجتمعها الجديد أو ما يمكن وصفه:
«بالصناديق الاثنية المغلقة؛ فى حالة مواجهة مع المجتمع كدائرة مفتوحة للاستيعاب»… أو ما بات يعرف فى أدبيات هذا المجال: Community versus .Society
ويبدو لى أن المجتمعات الغربية قد أعادت نموذج الدولة العثمانية «الملية». وهو النموذج التاريخى الذى لم يصمد كثيرا. كما أن تجربة ما عرف «بالتمييز الإيجابى» أظن أنها تحتاج إلى إعادة نظر. وأذكر أننى طرحت ذلك فى كلمتى التى ألقيتها أثناء تسلمى جائزة الأكاديمية النرويجية للآداب وحرية التعبير، ودبلومتها العلمية، عام 2004، (الجائزة التى تحمل اسم أول أديب نرويجى يحصل على نوبل للآداب فى عام 1903)… وأن الدخول فى عملية تطبيق المواطنة بالمعنى الدقيق بحسب ما تم اختبارها على أرض الواقع هو وحده الذى يضمن تناغما وانسجاما بين المواطنين على اختلاف مشاربهم سواء كانت: ثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، ومن ثم دولة ناهضة ذات مجتمع قوى بلا جماعات مناهضة أو منعزلة… ونتابع…