كيف عادت روسيا إلى المقدمة؟

لا معنى لروسيا بدون إمبراطورية»… إنها العبارة/الفكرة التى انطلقت منها روسيا إلى مقدمة المسرح العالمي، مرة أخري، خلال أقل من عقدين. ودأب الجميع: الدولة والمجتمع، عقب تفكيك الاتحاد السوفيتى على توفير القاعدة المادية المطلوبة من: موارد طبيعية وتقنيات،…، إلخ، وإطلاق الطاقة الثقافية الكامنة لشحذ الهمم، بهدف جعل الفكرة حقيقة…كيف؟


كانت روسيا 1991 فى حالة متدهورة للغاية. وهو ما حفز النخبة الروسية أن تطرح سؤالا جوهريا مركبا هو: كيف الخروج من المحنة وأى روسيا نريد؟…وعليه تعددت الأسئلة من عينة: ماهى المصالح القومية لروسيا؟، وما الذى تملكه روسيا من امكانيات وموارد مادية وطبيعية؟ ومعنوية؟ وهو ما بات يعرف فى الأدبيات الروسية الاستراتيجية: «بالطاقة الكامنة لروسيا». وفى هذا الإطار تعددت الأسئلة وتنوعت لتشمل كافة المجالات، حيث تمت دراسة ما يلي:النمط الاقتصادى الذى يجب أن يطبق، والتركيبة الصناعية، جيوبوليتيكا الداخل والخارج (الجغرافيا السياسية)، المصالح الإثنية، البنية العسكرية، وكيفية الانطلاق التكنولوجي،… لم يكن الأمر سهلا، ولكنه تم بشكل علمى على أعلى مستوى وبمشاركة كل الفرقاء من كل التيارات ومن كل الجهات ذات الثقل التاريخى فى روسيا، لتحديد كيف يمكن إحداث تحولات جذرية فى مجموع التكوين: السياسي، الجيوبوليتيكي، الأيديولوجي، والاجتماعي… وفى ضوء حصيلة نقاشات استراتيجية رفيعة المستوي، توافقت النخبة بكل ألوانها على أن تكون «الإمبراطورية» هى الوحدة الحضارية/السياسيةلروسيا الجديدة باعتبارها: «الصيغة الوحيدة التى يمكن اعتمادها للوجود اللائق والطبيعى للشعب الروسى بحسب أحد الاستراتيجيين المعتبرين ـ وعلى أنه الإمكانية الوحيدة للوصول برسالته التاريخية والحضارية إلى أبعد مدى»… ذلك لأنه لا معنى لروسيا بدون إمبراطورية ليس فقط بسبب التاريخ والجغرافيا والبشر. ولكن للأسباب الموضوعية الثلاثة التالية: أولا: أن روسيا ممتدة ـ جغرافيا ـ على مدى قارتين، ثانيا: لأن روسيا لا توصف بأنها دولة ــ أمة كما هو الحال فى الكثير من دول أوروبا، ثالثا: كما أنها ليست دولة ذات دور إقليمى محدود،… وإنما هى أكبر من ذلك بكثير… وهنا بدأت تبلور روسيا مشروعها. ويمكن أن نوجزه فى العناصر الثلاثة التالية:

أولا: روسيا دولة صاحبة رسالة؛ رسالتها أنها إمبراطورية ممتدة. وهى فكرة تكمن فى طيات التاريخ الروسى (منذ توحدت القبائل السلافية الأوجرو ــ فنلندية فى القرن التاسع). تم استدعاؤها وقت روسيا القيصرية ثم روسيا السوفيتية. وما من سبيل إلا أن تستمر روسيا فى رسالتها الإمبراطورية مع تجنب الأخطاء الفادحة التى جرت فى الماضي، وذلك لسببين هما: أولا، أنها أكبر من ان تخضع لفكرة الدولة ـ الأمة، ثانيا لأن هذا هو السبيل لتقدمها ونهضتها…

ثانيا: التحرك القارى؛ قام هذا التحرك على فلسفة مفادها: «التفاعل بين عامل الجيوسياسة (تعظيم مزايا الجغرافيا والسياسة) والحضارة». وعليه انطلق بوتين منذ العام 2000 يؤسس للإمبراطورية الجديدة من خلال انطلاق روسيا «الأوراسية» التى تمتد على مدى الحدود الآسيوية والأوروبية… كانت البداية بتوقيع اتفاقية الأمن الجماعى بين: «روسيا وبيلا روسيا وأرمينيا وكازاخستان قرجيزيا وطاجيكستان وأوزبكستان»… وقد تطور التعاون لاحقا من خلال تأسيس اتحاد جمركى بين روسيا وبيلا روسيا وكازاخستان فى مايو 2011. وتطور الأمر إلى إلغاء التأشيرات مطلع 2012. وجار العمل على اعتماد عملة واحدة. (ونشير فقط إلى كيف أن انتاج النفط لأذربيجان (3 ملايين برميل ــ 2010)، بالإضافة إلى نفط روسيا (7 ملايين برميل) بالإضافة لحصيلة شركات النفط الروسية فى الدول التى تعمل بها يضيف إليها ضعف ما سبق ومن ثم يدعم كل ما تأمل أن تحققه روسيا الإمبراطورية، هذا بالإضافة إلى المشروعات العملاقة العابرة للقارات).

ثالثا: التحرك الكوني؛بدأ أولا: بالتقارب ثم ثانيا: بالصداقة الاستراتيجية بين روسيا والصين تحت الدعوة إلى نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب والمراكز… فتأسست «منظمة تعاون شنغهاى»، 2001 التى تضم الصين وروسيا وكازاخستان وأوزباكستان وطاجيكستان وقراغستان، وكمراقبين كل من: الهند وباكستان وإيران… وفى الذكرى الأولى لواقعة 11 سبتمبر أعلن بوتين: «أنه ولدت علاقات من نوع جديد بالكامل بين روسيا والولايات المتحدة اليوم»… وأعلنت الشراكة بينهما من أجل بناء العالم الجديد معا… ويعد هذا الاتفاق: «تصفية لكل أعباء الحرب الباردة، وبتأسيس جديد للمشهد العالمى»… كما تأسست البريكس لاحقا…وتشابكت مصالح الإمبراطورية العائدة مع الشركات المتعددة العابرة للحدود بما فيها الأمريكية تعاظمت الفوائد المتبادلة للدرجة التى امتنعت فيها بعض الشركات الأمريكية العملاقة عن تنفيذ العقوبات التى أعلنها أوباما ضد روسيا العام الماضى.

المحصلة أن روسيا قد أنجزت بدأب أولا: شراكة مع التنين الصيني، وثانيا: شراكة مع القطب الأمريكي. وعدد غير مسبوق وغير محدود من الاتفاقات والتحالفات مع دول العالم فى شتى القارات…وهكذا عادت روسيا إلى صدارة المشهد…بيد أن هذا لم يكن ليحدث ما لم تنجز فى الداخل تقدما اقتصاديا فى إطار مشروع تنموى شامل…

إنها تجربة جديرة بالدراسة المتأنية وفهم تفاصيلها. حيث تم الحفاظ فيها على وحدة روسيا وتحقيق نهضة اقتصادية كبيرة وتطور تكنولوجى ملحوظ وحضور قارى وكونى فاعل…وبقى أن تشهد روسيا تطورا ديمقراطيا مناسبا، أظنه قيد الحوار وخاصة مع الشباب الآن… ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern