النظام العالمى.. تناقضات جوهرية وتصورات احتوائية

«أمريكا كمنارة…أم أمريكا كمحارب»؟… بهذه الكلمات لخص كيسنجر فى إحدى دراساته المبكرة، السؤال التاريخى الدائم الطرح من قبل الاستراتيجيين الأمريكيين… وهو هل تقوم أمريكا بمهامها الكونية من منطلق التبشير بنموذجها القيمى أم تفرضه على العالم فرضا… ودوما ينحاز كيسنجر إلى الأخذ بالأمرين متأثرا بمثله الأعلى السياسى الأوروبى «مترنيخ»…


وتقوم رؤية «مترنيخ»، والتى يؤمن بها كيسنجر، على أن النظام العالمى لابد أن يكون فى حالة توازن بين دوله. وذلك من خلال نشر منظومة قيم مشتركة بين الجميع والتى من خلالها تتحقق السيادة عمليا. ولا مانع من ممارسة القوة متى تطلب الأمر فى إطار تعاون دولى واسع. وعليه ينتقد كيسنجر مفهوم استخدام القوة بصورته المباشرة من جانب، كذلك محاولة فرض الهيمنة من خلال القيم وحدها، بيد أن النتيجة واحدة.

وها هو فى كتابه الأخير: “النظام العالمي”؛ يستعيد نفس الفكرة. فتحت مظلة التوازن بين: “المشروعية والقوة”. نجده يطرح تصوره للنظام العالمى الجديد ودور الولايات المتحدة الأمريكية فيه. فبعد أن يستعرض المفاهيم التى تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية فى عهود رؤسائها المتعاقبين: تيودور روزفلت، وودرو ويلسون، وفرانكلين روزفلت، ومن بعدهم الاثنى عشر رئيسا الذين تولوا رئاسة أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، والتى تراوحت مواقفهم بين المثالية والواقعية. نجده يطرح رؤيته فى إعادة بناء النظام العالمى الجديد والتى تقوم علي: «فرادة خبرة الولايات المتحدة الأمريكية والثقة المطلقة فى عالميتها»…

ولكن كيسنجر، هذه المرة، لم يكتف بأن يطرح اطروحته هذه. بل اعترف ـ وهو أمر جديد ـ بأن هناك تناقضات حادة وجسيمة تنتشر فى العلاقات الدولية الراهنة. تناقضات تحول دون تحقيق الاستقرار العالمى ومن ثم التزايد المطرد للاضطراب الكوكبى. وفى هذا المقام لخص تناقضات المشهد العالمى الراهن فى ثلاثة تناقضات رئيسية كما يلى:

التناقض الأول: بين العولمة كمنظومة ثقافية وسياسية واقتصادية عابرة للحدود وبين الخصوصية الذاتية لدول النظام العالمي. التناقض الثاني: بين السيادة الوطنية وبين استباحة التدخلات الخارجية تحت أى مسمى: العسكرى، أو الانساني، أو من خلال المؤسسات الدولية. التناقض الثالث: هو الاختلاف بين النظام الاقتصادى العالمى “المعولم” وبين الهيكل السياسى للدول التى تصنف دولا قومية.

وتعد التناقضات السابقة هى جوهر الأزمة التى يواجهها النظام العالمي. وعلى الرغم من إقرار كيسنجر بالتناقضات التى يتعرض لها هذا النظام، إلا أن التصورات التى يطرحها حول مستقبل النظام العالمى تدور حول أمرين هما: الأول تجديد دور الولايات المتحدة الأمريكية فى إطار تعاونى لا منفرد ـ مع أوروبا ومع القوى الكبيرة البازغة مثل الصين كذلك مع القوى الصاعدة فى مختلف القارات، كون أمريكا لم تزل قائدة للعالم الحر والديمقراطى. والثانى التشبيك والربط بين دول العالم تحت مظلة قيم كونية مشتركة يتم التوافق عليها…ومن ثم يمكن تحقيق توازن القوى وضبط الصراع والتنافس بين الدول.

مما سبق، يمكن القول إن كيسنجر قد نجح فى تقديم توصيف دقيق للواقع من جهة، إلا أنه لم يستطع أن يقدم تصورات قادرة على حل هذه التناقضات من جهة أخري. فما قدمه من تصورات لا تزيد عن كونها تصورات يمكن أن نصفها «بالاحتوائية»… لماذا؟… يمكن أن نوجز اجابتنا فى النقاط التالية:

أولا: لم يقترب كيسنجر من الأسباب التى أدت إلى حدوث هذه التناقضات ودور القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية فى بروزها. بداية من الزمن الاستعمارى بقواه التقليدية ومرورا بالحرب الباردة ووصولا إلى الزمن الإمبراطورى وما بعده، فى كسر الكثير من مبادئ معاهدة وستفاليا ـ وبخاصة السيادة الوطنية ـ التى يتمسك بها كيسنجر(وينطلق منها فى كل ما ينطق). من خلال إثارة التوترات فى كثير من الأماكن، ودعم الحركات الإرهابية، والدعم المطلق لإسرائيل مثلا. ثانيا: دور آليات العولمة المتنوعة فى خلق روابط عابرة للحدود بين أطراف محلية وأخرى عالمية ضاربة بعرض الحائط السيادة الوطنية. وعلى رأس هذه الآليات الشركات متعددة الجنسية (أو المتعدية الجنسية بحسب اسماعيل صبرى عبد الله) ودورها فى تمركز المال فى أيدى قلة على حساب الغالبية من البشر. انطلاقا من سياسات اقتصادية تزيد الفجوة بينهما ما يجعل الاستقرار أمرا بعيد المنال. ثالثا: لم يقل لنا كيسنجر تحديدا ما هى القيم التى يجب أن تسود النظام العالمى الجديد وكيف يمكن أن يتم التوافق حولها بين دول النظام العالمى.

واقع الحال يبدو لى أن كيسنجر ومن قبله بريجنسكى (وآخرون)، يحاولون تجديد الدور الأمريكى أولا، ومحاولة الجمع بين المتناقضات، أو التوازن بينها بحسب كلمات كيسنجر الختامية، ثانيا. وأخيرا اتاحة الفرصة أمام النظام الاقتصادى المأزوم أن يحظى بفرصة أخري… ما يعنى أن التناقضات الجسيمة، والتى يقر بها كيسنجر ـ فإنه يواجهها بتصورات قديمة… ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern