“لقد تم تسليح الدين ليكون فى خدمة أهداف الجغرافيا السياسية”… عبارة أنهى بها كيسنجر الفصل الثالث المعنون: الإسلاموية والشرق الأوسط: عالم فى فوضى ولا نظام”؛ من مجلده “النظام العالمي”، الذى صدر نهاية الصيف الماضى (400 صفحة)، والذى قدمنا خطوطه العريضة كذلك أهمية وأفكار كاتبه فى مقال الأسبوع الماضي، ونواصل اليوم قراءتنا…
فى هذا الفصل يقترب كيسنجر من الوضع الراهن لمنطقة الشرق الوسط: من خلال استعراض تاريخه، وأهم الإشكاليات التى نتجت عن هذا التاريخ على مدى قرون وباتت تشعل بصورة مباشرة واقعنا الراهن فى المنطقة، وكيف يرى مستقبل المنطقة فى ضوء ما سبق…
فى هذا السياق، يمكن إيجاز مقاربة كيسنجر فى خمسة موضوعات وذلك كما يلي: أولا: أهمية الشرق الأوسط من الناحية الحضارية والدينية. وثانيا: انتشار الإسلام فى العالم أو ما أطلق عليه النظام العالمى الإسلامي. وثالثا: الصراع بين رؤيتين للنظام العالمي. ورابعا: الربيع العربى والزلزال السوري. خامسا: يفرد مساحة حول السعودية والمسألة الفلسطينية وأخيرا يضع بعض الأفكار للمستقبل…ونفصل ما سبق فى النقاط التالية:
أولا: فى البداية يقول إن المنطقة قد عرفت وتطورت فيها مجموعة من الحضارات المتعاقبة. وكل منها اعتبر نفسه قلب الكون أو مركز الحياة الحضارية. بداية من الحضارة المصرية القديمة، والبابلية والسومرية، والفارسية التى يعتبرها قد حاولت أن تدمج تنوعات كثيرة: إفريقية وآسيوية وأوروبية فى مجتمع واحد، تحت إمرة “الشاهنشاه” أو ملك الملوك.، وذلك فى القرن السادس قبل الميلاد. ومع القرن السادس الميلادي، هيمن على المشهد العالمي: البيزنطيون والساسانيون الفرس من جهة أخرى.
ثانيا: ثم ظهر الإسلام فى القرن السابع الميلادى وانتشر انتشاره السريع فى عديد القارات مكرسا فكرة “دار الإسلام” فى مواجهة “دار الحرب”. ويتتبع مسيرة الإسلام التاريخية حتى نهاية الدولة العثمانية (رجل أوروبا المريض). ولا يفوت كيسنجر أن يشير إلى أن أوروبا المسيحية قد عرفت الحملات الصليبية أى مارست الحروب على اساس ديني. إلا أنها مع الوقت وخاصة بعد حرب الثلاثين عاما التى دارت بين الدول الأوروبية على أساس مذهبي. تأسست شرعية جديدة وفق معاهدة “وستفاليا”(1648)، التى أسست لمنظومة عالمية تقوم على أساسين هما: سيادة الدولة، والاستقلال. ما يعنى القبول بتوازن القوى وحرمة الحدود بين الدول. وقد حكمت هذه المبادئ النظام العالمى ومأسسته الأمم المتحدة بميلادها قبل منتصف القرن العشرين.
ثالثا: يرصد كيسنجر هذا الاختلاف. ويعتبر عام 1947 سنة مهمة فى هذا السياق. حيث أعلن حسن البنا ضرورة إقامة بديل دينى للدولة الوطنية/ القومية. كما جدد من بعده سيد قطب فكرة دار الإسلام ودار الحرب. وأهمية هذه الإشارة أن “الدولة” بمعناها الكلاسيكى لم تعد هى محور وأساس حركة المواطنين الذين يعيشون تحت ظلها على اختلافهم. حيث تفقد الدولة شرعيتها بهذا. وعليه لا معنى للحدود بين الدول طالما أن الرابطة الدينية هى التى ستربط بين الأفراد.
رابعا: حل الربيع العربى (وها هو استراتيجى أمريكى آخر يعترف بها كنقطة تحول محورية فى تاريخ المنطقة بالإضافة إلى فوكوياما الذى عرضنا لمجلده الأخير على مدى أربعة مقالات فى هذا المكان مؤخرا)، بفعل انتفاضة الجيل الجديد الباحث عن الحرية والديمقراطية. واللفتة المهمة التى أبرزها كيسنجر فى هذا المقام هو كيف أن القوى التقليدية الدينية ذات الانتماء الريفى قد أثبتت قدرة على التنظيم أكثر من الطبقة الوسطى الحضرية المدينية والتى ناضلت من أجل المبادئ الديمقراطية. هذا الاختلاف هو الذى تتم ترجمته على أرض الواقع بين قوى انحازت لرؤية دينية تتناقض مع الدولة الوطنية الحديثة وتبغى تجاوزها من خلال فتح الحدود من خلال الامتداد الطبيعى بين ذوى الرابطة الدينية الواحدة ومن ثم فتح الحدود وتكريس ما يمكن تسميته “بالجغرافيا الدينية”. ولايهم بعد ذلك أن تنهار الدول بصورتها الكلاسيكية، أو تستباح السيادة الوطنية أو الاستقلال الوطنى وأن تنتشر الفوضى وأن تتفكك أوصال الدول لصالح مساحات جغرافية جديدة ذات طابع ممتد “لا دولتي” (أى لا وجود للدولة فيه)، وكأنه استعادة للصراع التاريخى القديم بين “الدارين”.
خامسا: فى النهاية يقول كيسنجر: كيف أن هذا الصراع قد ألقى بظلاله على الصراع الفلسطينى الإسرائيلي. الصراع بين شرعية المنظومة الدولية التى تنتسب إلى “وستفاليا” حيث الدولة المستقلة هى الوحدة السياسية المعترف بها وبمشروعيتها، وبين التصور الذى تحاول أن تفضه عنوة القوى الدينية من خلال “الجغرافيا الدينية” بهدف تصدع الدول.
ويخلص كيسنجر إلى ضرورة تفهم أن هذه الوضعية ستؤدى حتما إلى بث الرعب وتهديد الاستقرار العالمي. وعليه لابد من دعم شرعية ستفاليا من خلال تقدم أمريكا والآخرين بدعم تأسيس نظام إقليمى جديد يتواءم مع الشرعية الدولية…لاشك أن التأصيل التاريخى والتحليل السياسى والاستنتاجات الأخيرة جديرة بالانتباه ولها وجاهتها…ولكنى أظنها ناقصة…ما يحتاج منا إلى توسيع زاوية الرؤية لما نشهده… ونتابع…