البحث العلمى: اقتباس سافر وإسناد افتراضى

منذ ثلاثة أسابيع، أثار الدكتور علاء عبد الهادى فى مقاله بالأهرام، قضية على أعلى درجة من الأهمية، ألا وهى قضية االسرقات العلمية«، حيث تعرض لدلالتها العميقة، والسياق الذى تحدث فيه، كما شرح تداعياتها الخطرة على المؤسسة الجامعية المصرية.


واستكمالا لما أثاره الصديق العزيز أود أن القى الضوء تفصيلا ـ انطلاقا من وقائع محددة ـ على تقنيات البحث العلمى التى باتت تستخدم فى كثير من الدراسات والرسائل الجامعية، واكتسبت شرعية منهجية تجعلها ـ فى المحصلة ـ تغطى على جدة وجودة وجدية البحث العلمى ودقة ما ورد به من معلومات وألمعية أفكاره وخلاصة الاستنتاجات الواردة به من جهة. ومن جهة أخري، تقنن السرقات العلمية… من هذه التقنيات نذكر ما يلي:

أولا: الاقتباس السافر؛ وأقصد بها تلك الظاهرة التى يمارسها بعض الباحثين عند تناولهم موضوعا ما. حيث يتجاوز النقل من المصادر والمراجع المعتبرة السابقة كل الأعراف المقبولة علميا.فمن المعروف أن هناك قواعد تنظم الكيفية التى يتم بها توظيف مقولات وأفكار وردت فى أبحاث سابقة. فهناك من يستحضر نصوصا سابقة فى إطار عرضه للكتابات والاجتهادات التى سبقت وعالجت موضوع البحث. وهناك من يدعم أفكاره بالإحالة لمعلومات ومقولات ووثائق وردت فى دراسات سابقة. وهناك من ينقد اجتهادات سابقة،…،إلخ. وفى كل الأحوال لابد من ذكر المصدر بالطرق العلمية المتعارف عليها، ورسم الحدود الواضحة بين النص المقتبس وبين نص الباحث. إلا أن ما بات شائعا هو الإفراط فى الاقتباس للدرجة التى تتداخل فيها النصوص، فلا يستطيع القارئ أن يميز بين النص الأصلى والنص الجديد. والأخطر فى هذا المقام هو تعمد الباحث أن يذكر المصدر مرة واحدة ويتغافل عن ذكره مرة أخرى بالرغم من استمرار الاقتباس الذى يمكن أن يصل إلى فصول كاملة. الطريف هو ذكر أسماء مراجع موجودة فى البحث الأصلى ولكن لا تجد لها توظيفا من أى نوع فى البحث الجديد، إلا حشو قائمة المصادر بعناوين كثيرة فقط. فى هذا السياق أذكر هؤلاء الذين كانوا يكتبون مسرحيات منقولة عن مؤلفين أجانب ويقدمونها على أنها من تأليفهم. وعندما كانوا يواجهون بحقيقة ما فعلوا كانوا يقولون أنه ااقتباس بتصرفب. وفى هذا الإطار، أقصد «الاقتباس السافر». رأيت مؤخرا أكثر من رسالة جامعية حول الشأن القبطى نقلت صفحات كاملة كما هى دون تدخل من الباحث من كتب لى ولآخرين فى هذا المقام.

ثانيا: الإسناد الافتراضي/المتخيل؛ واقصد بها تلك البدعة التى صارت منتشرة بين الباحثين بوضع ما يمكن أن نطلق عليه «المصادر الالكترونية». بدعة بدأت وشاعت واكتسبت قبولا علميا. وصارت الأبحاث والدراسات الحالية تزخر بقوائم من المصادر الالكترونية. وأنا ليس لى اعتراض من حيث المبدأ على الإسناد الالكتروني، إلا أن الإشكالية الصارخة هى أن الباحثين لا يجيدون اختيار هذه المصادر. ويدركون أنه من الصعوبة بمكان مراجعة هذه المصادر خاصة مع الإكثار منها وما يحتاجه ذلك من وقت. وأذكر أنى قمت بمراجعة لدراسة تتعلق بالشأن الأمريكى (وأزعم أننى أدركه بدرجة أو أخرى نظرا لدراستى المبكرة لقانون الحريات الدينية الأمريكى ولليمين الدينى ودوره فى السياسة والذى أهلنى أن أكتب كتابا عن الإمبراطورية الأمريكية ـ 2003)، وجدت الباحث يضع مواقع الكترونية عديدة، فقمت بتتبع بعضها ـ وفق اختيار عشوائى ووجدتها مواقع لا قيمة لها لا تتبع أيا من المراكز البحثية المعتبرة أو ترتبط بأية جهة علمية أو معرفية معترف بها. فما هى إلا مواقع عشوائية لا يمكن أن يقوم البحث العلمى على ما ورد بها من كلمات لا مصدر لها… أنه إسناد افتراضى متخيل لا علاقة له بالواقع ولا بالحقيقة ولا بالعلم ولا بالمعرفة…

ثالثا: الإحالة الثانوية؛وأظنها من أخطر الظواهر التى داهمت البحث العلمي. حيث يلجأ الباحث إلى الاعتماد على مصادر ومراجع ثانوية وهامشية أى ليست أصيلة أو أساسية لموضوع البحث. فهناك مصادر أساسية إن لم تكن حاضرة فى موضوع البحث، يعنى ذلك عدم أصالته ويشكك فى مضمون ما ورد به. من جانب آخر، نتيجة للتطور المعرفى المطرد فقد أصبح لكل موضوع أدبياته ومصادره الأساسية المباشرة. فعلى سبيل المثال: لا يمكن القبول بتناول موضوعات مثل المواطنة أو التحول الديمقراطي،…إلخ، والإحالة لأدبيات كلاسيكية تتعلق بالديمقراطية فى العموم. وإهمال الأدبيات التى تبلورت أخيرا فى ضوء خبرات واقعية وتجارب ميدانية فى مجالى المواطنة والتحول الديمقراطي. لأن ذلك يعنى أن المصادر الأساسية ليست حاضرة.وأن المصادر المذكورة لا تمس الموضوع البحثى فى جوهره. وهنا يمكن أن نعدد الكثير من الأمثلة.

إنها تقنيات تضعف من البحث العلمى وتشير إلى مدى التدهور الذى طاله. وعن مدى تخلفنا عن الموجات المعرفية المتلاحقة…وخطورتها أنها اكتسبت شرعية وأكسبت السرقات العلمية القبول…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern