فى بناء الدولة الجديدة

الدولة الجديدة أو دولة الثورة عند البعض؛ هى الدولة التى تعبر عن مطالب التغيير وعن تطلعات الجماهير وأحلامهم. ولا يمكن أن تجد هذه المطالب والتطلعات والأحلام طريقها للتحقق دون أن تطور الدولة من طبيعتها الداخلية وطريقتها فى التفكير كذلك أدواتها ولوائحها وهياكلها وسياساتها وممارساتها. حتى تتمكن من أداء هذا الدور التاريخي…


فالطلب على التغيير لا يهدف إلى تغيير الأشخاص، فقط. أو تعديل الهياكل المؤسسية بدمجها تارة أو إلغائها تارة أخرى.وإنما إلى امتداد عملية التغيير لتشمل الأبنية المؤسسية التى كان تعمل على مدى زمنى ممتد وثبت فشلها أو ضعفها أو «تآكلها»(إذا ما استعرنا تعبير فوكوياما). خاصة أن أحد أهم القضايا التى تلقى اهتماما فى الآونة الأخيرة هو أن الدولة شأنها شأن اى كائن حى يمكن أن يطالها: الترهل، والوهن، والتراخى والنمطية والبيروقراطية أو بلغة أخرى: «الرحرحة والتسوس».ولم يستثن فوكوياما من هذا المصير الدول الديمقراطية المتقدمة والقوية والثرية فى مجلده «النظام السياسى والتآكل السياسي» (كما أوضحنا فى مقال سابق)، ولا الدول التى فى الأصل مصنفة: ضعيفةأو فاشلة أو ساكنة أو عجوز،…،إلخ، ويقينا فقيرة واستبدادية. فما بالنا، وهذا هو المهم، الدول التى عبر مواطنوها عن الحاجة الملحة إلى التغييربسبب عدم قدرة الدولة ومؤسساتها، من جهة، وسلطاتها، من جهة أخرى، على مواكبة احتياجات مواطنيها.

وعليه «تحركوا»، أولا، ميدانيا من أجل تحريك المياه الراكدة التى جعلت مصر فى ثلاجة على مدى عقود. حيث كل شيء مؤجل. ثم تمردوا، ثانيا، على محاولة الانحراف عن شرعية التغيير التى جاءت بسلطة جديدة حاولت أن تؤسس لدولة لا تختلف جوهريا عن طبيعة الدولة السابقة: لا فى منطقها وتصوراتها ولا فى قاعدتها الاجتماعية وتوجهاتها الاقتصادية ونموذجها التنموي. إلا فى توظيف الدين كى تستمر الدولة القديمة.

فى هذا السياق، نرجع مرة أخرى لمجلد فوكوياما المرجعي. فبعد مراجعته لتاريخ ثورات العالم وتطور النظام السياسى عبر العصور، وبعد أن يفرد قسما عن الربيع العربى (راجع مقال الأسبوع الماضي)، نجده يضع تصوراته حول الدولة: السلطات والمؤسسات؛ فى ظل التحولات الكونية الجديدة و»حراكات» المواطنين فى كل مكان دون استثناء، ما يضمن عدم تآكلها»، سواء فى الدول المترفة أو المتعثرة.

يطرح فوكوياما عدة أفكار حول الدولة الجديدة أو تجديد الدولة فى سياق الطلب الجماهيرى للتغيير من أجل التقدم من جانب، ومن أجل تأسيس واقع ديمقراطى يتم تعميقه فى فكر وممارسات والمواطنين فى مجالات حركتهم المتنوعة، يتجاوز الديمقراطية الإجرائية من خلال التصويت وصندوق الانتخابات…لذا يقول فوكوياما ـ وفى ضوء دراسة عدد من الحالات الدولية وبخاصة دول الموجة الديمقراطية الراهنة ـ ما يلي:«هناك حاجة إلى بناء دولة قادرة وقوية ذات سلطات فاعلة هدفها خدمة المواطنين كل المواطنين ـ دون تمييز ـ خدمة جيدة.

وهذا يتطلب مؤسسات ادارية حديثة/حداثية(بيروقراطية جديدة إذا جاز التعبير)تتسم بعدة سمات(من خلال العناصر البشرية التى تضمها)منها: أولا: «مبادرة» أى لديها القدرة»؛ على الإدارة الذاتية حيث يتم تشكيل التوجهات والسياسات والقرارات فى المؤسسة وفق روحية وآلية ديمقراطية(بالطبع فى ضوء الرؤية العامة الحاكمة للدولة/الحكومة للنموذج التنموى والإدارى الذى تتبناه. ووفق العملية الديمقراطية الشاملة والكبيرة التى من المفترض أنها تطبق فى المجال السياسى حيث لا يمكن الفصل بين ما هو: إداري/بيروقراطى وسياسي/ دولتي). ثانيا: «متحررة»؛ من الخضوع والتبعية سواء : لأصحاب المصالح، او القلة الثروية، أو أى فئة من أى نوع وخاصة القبلية والعشائرية (الجماعات الأولية)،…،إلخ. ومن الولاء والطاعة العمياء للوائح والهرمية الإدارية بالمطلقم يجعلها مشوبة بالسرية والغموض حكرا على حراس المغارة، أقصد حراس البيروقراطية التقليدية.ثالثا: «مبدعة»؛فى تطوير بيئة العمل ومضمونه وفق الجديد فى العالم ليس التقنى فقط وإنما الأفكار التى أبدعت التقنيات الجديدة. ومن ثم التجويد الدائم والمستمر فى جوهر وشكل المنتج النهائى المقدم للمواطنين…شريطة الوعى أنه لابد من تجاوز التمحور قصر التعاطى فقط مع ما بات يعرف «بحكم الخبراء» بحسب تعبير تيموثى ميتشل (دراسة مهمة حول مصر صدرت فى 2002 ترجمت فى المركز القومى للترجمة فى 2010)، أو «طغيان الخبراء» بتعبير وليم ايسترلى فى كتابه الصادر منذ شهور(صاحب المؤلف الشهير عبء الرجل الأبيض) خاصة فى لحظة تلح فيها مطالب التغيير الراديكالي/الجذري…وتجارب ماليزيا وجنوب إفريقيا وتشيلى دالة فى هذا المقام.

الخلاصة، يربط فوكوياما التطور الديمقراطى للدول التى قطعت شوطا فى التقدم من جانب، والانتقال الديمقراطى للدول التى تناضل من أجل ذلك من جانب آخر، بقوة الدولة النوعية وفى القلب حكم القانون الذى يتساوى أمامه الجميع. وقدرة مؤسساتهامن خلال حكومة:مبادرة ومتحررة ومبدعة.فى ظل حركية مجتمعية دائمة بفعل كثير من العوامل والأسباب…وأظن أنه لا سبيل إلا أن نعمل معا على قاعدة الشراكة الوطنية من أجل بناء دولة الثورة…ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern