المؤسسات السياسية بين التماسك والتآكل

ما هى العوامل الحاكمة التى تدفع المؤسسات السياسية للتماسك والتطور، فى بعض الدول والتجارب العالمية،
وما الظروف التى تؤدى إلى «تآكلها»؟… وماهى المعايير والضوابط الحاكمة والكاشفة التى تقول إن هذه المؤسسات قد فقدت صلاحيتها أو لا تزال فاعلة؟… وما تأثير التطور الديمقراطى والتنمية السياسية والطبقة الوسطى الكونية الصاعدة على درجتى التماسك/ التآكل لبنى المؤسسات السياسية؟

هذه الأسئلة وغيرها الكثير، هى التى يحاول الإجابة عنها «مؤلف النهايات» «فرانسيس فوكوياما» (بحسب وصفنا له فى المقال الماضي) العالم السياسى الأمريكى الأشهر، فى موسوعته عن «النظام السياسي» (1400 صفحة). حيث تناول «جذور/أصول النظام السياسى من أزمان ما قبل الانسانية إلى الثورة الفرنسية فى جزء أول(2011). وتتبع فى الجزء الثانى (الصادر منذ أيام)» تماسك وتآكل المؤسسات السياسية ومستقبل النظام السياسى من وقت الثورة الليبرالية إلى ما يطلق عليه «عولمة الديمقراطية». ونركز فى مقالنا هذا ـ ولاحقا ـ على تقديم أهم ما تضمنه الجزء الثانى من مجلده الهام.

أولا: أهمية الكتاب؛ يتسم كتاب فوكوياما بأهمية مركبة تتكون من ثلاثة عناصر. أولها: انه ينطلق من فى تقويمه لتاريخ المؤسسات السياسية على الدراسة التاريخية الممتدة عبر العصور التى تغطى ثقافات وحضارات ودولا متنوعة. حيث يخضع وقائع التاريخ للمعالجة من زوايا منهجية عدة مسنودة بالكثير من التفاصيل التاريخية الدالة مما يسبغ البعد الموسوعى على المنتج الفكري. وعليه نجد علم التنمية السياسية وأدبيات الديمقراطية والتحليل الطبقى والدراسات المرتبطة بالدولة وعلم اجتماع المؤسسية،…، إلخ. ثانيها: الاجتهاد فى تتبع المسار التاريخى لبنية المؤسسات السياسية وربطها بالواقع الحالى فى أكثر من موضع جغرافى عالمى بما فيها منطقتنا وخاصة مع حلول فصل الربيع العربي. ثالثها: فى ضوء ما سبق يضع تصوراته للمستقبل لمعالجة التآكل/التسوس الذى انتشر واستشرى فى أجسام البنى المؤسسية السياسية الراهنة فى العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية. والأهم فى هذا المقام هو حرصه على تسويق نموذج للمؤسسات السياسية المتماسكة وفق نموذج بعينه… كيف؟ قبل الإجابة نقدم ملامح بنية الكتاب.

ثانيا: بنية الكتاب؛ ينسج فوكوياما بنية كتابه بمهارة شديدة. ففى البداية يبدأ بمقدمة حول تطور المؤسسات السياسية حتى الثورة الفرنسية. ثم يبدأ فى الاقتراب من الدولة من خلال مجموعة من التعريفات التى تتناول البيروقراطية والتنمية بأبعادها والفساد ونموذج بناء الدولة متمثلا فى النموذج «البروسي». كذلك النموذج الايطالي. ثم يتناول نماذج من السياقات الإفريقية والآسيوية. وأخيرا يحدثنا عن الديمقراطية ولماذا انتشرت كنموذج مرجعي. ثم يعالج قضيته الأساس ألا وهى تآكل المؤسسات السياسية… وفى ضوء ما سبق يناقش مستقبل الديمقراطية فى ظل طبقة وسطى نامية ومتزايدة.

ثالثا: أفكار الكتاب؛ تقوم الفكرة الجوهرية للكتاب على الربط بين التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية من جهة وبين الديمقراطية.. وهو الربط الذى «يتحقق معه التماسك المؤسسى للدولة أو يمتنع فيه وعليه يحدث التآكل». ويدلل على ذلك بأمثلة كثيرة منها على سبيل المثال ايطاليا الفاشية كانت تطبق القانون بصرامة ولكن دون ديمقراطية، ومن ثم تآكلت مؤسساتها ونخر السوس فى نسيجها فكان الانهيار.والصين الصاعدة بقوة اقتصاديا ولكن دون ديمقراطية ما يعرضها للكثير من الأزمات المكتومة. فى ضوء الفكرة الجوهرية، يطرح فوكوياما رؤيته فى ضرورة أن تسعى المجتمعات المتنوعة على تنمية مؤسسات قوية غير «مشخصنة» وغير تابعة وقابلة للمحاسبة والمراجعة والنقد والتقويم. وهذا لا يتأتى إلا بالديمقراطية باعتبارها النموذج المثالى والعملي: المرجعى بلغة أخري؛ الذى يضمن عدم تآكل مؤسسات الدولة شريطة تجديدها..

من جانب آخر ربط فوكوياما بين الدولة القوية وبين الديمقراطية. فلا يمكن أن تنمو الديمقراطية فى مجتمعات تعانى من دول فاشلة. وعليه لابد من أن تكون هناك دولة كاملة السلطات وتامة المؤسسات لضمان بزوغ الديمقراطية…لكن هذا لا يعنى ضمان عدم التآكل بالمطلق. ذلك لأن النموذج الديمقراطى فى الدول القوية قد يتعرض لتآكل مؤسساته إذا ما لحقـت به «الرحرحة» أو الركود أو الجمود.

بلغة أخري، لابد من إدراك أن النظام الديمقراطى فى الدول المتقدمة قد يحقق نجاحات فى العديد من المجالات بالنسبة لمواطنيه، وأن مؤسساته قد تبلغ تقدما كبيرا. ولكن إذا ركنت هذه الدول إلى الانسحاب من مواجهة التحديات البازغة فإن هذا يؤدى بها إلى تآكل مؤسساتها مهما بلغت قوتها أو تقدمت فى ممارساتها الديمقراطية. وهذا ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية، التى عليها من أجل استمرار ديمقراطيتها: كنموذج؛ وحماية مؤسساتها من التآكل؛ أن تتيقظ وتقبل بمواجهة ما يتهددها من تحديات مثل الصعود الكونى الصينى فى المجالين الاقتصادى والعسكري…فى هذا السياق أين «سكن» فوكوياما الربيع العربي…ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern