التوافق الاقتصادى

ما إن قلت لصديقى إننى منشغل بقضية «التوافق الاقتصادى»، حتى وجدته يقول لى: «التوافق» مرة أخري…قلت: وماذا فى ذلك. فأجابني:أظننا قد انتهينا من هذه المهمة بإنجاز الدستور، بدرجة أو أخري. أجبته نعم، وقبل أن أكمل وجدته يسبقنى بقوله: «أرى أنك سوف تقول ولكن»…فأجبته: «نعم ولكن»، وبدأت فى شرح وجهة نظرى…
النص الدستورى، يعكس درجة من درجات التوافق الكلية أو العامة بين القوى السياسية والتيارات والحركات الفكرية المختلفة والمؤسسات المعتبرة فى لحظة تاريخية معينة. ولكن هذا التوافق الكلى يتكون من مجموعة من التوافقات النوعية: الاقتصادية والثقافية والسياسية والمدنية. وتزداد الحاجة إلى التوافق ـ دوماـ فى مراحل التحول/الانتقال من حالة سياسية إلى أخري: حالة «استبدادية/شمولية/سلطوية تم الخروج عليها» إلى حالة «ديمقراطية مأمولة: سياسيا ومدنيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا». وإذا كان المصريون قد استطاعوا من خلال حراك 25 يناير وتمرد 30 يونيو أن يسقطوا الاستبداد ببعديه السياسى والديني، فإنما هذا يعنى أن هناك حاجة إلى تأسيس جديد. ذلك لاستحالة العودة إلى الحالة القديمة وكأن لا شيء قد حدث. ما يعنى ضرورة التوافق على طبيعة الحالة الجديدة وجوهر علاقاتها ومضمون قوانينها وهياكلها المؤسسية المطلوبة وانعكاس ذلك عمليا وفعليا فى تيسير عملية التحول إلى الحالة الجديدة التى ناضل من أجلها المواطنون، أى الحالة الديمقراطية التى تؤمن المواطنة التى تقوم على المساواة والعدالة.وعليه فإن هناك الكثير المطلوب عمله فى شتى المجالات والمساحات للتوافق حولها، ومن هذه المجالات المجال الاقتصادي…ما الذى أقصده بالتوافق الاقتصادي؟ ومضمونه؟ وكيف؟

أولا: حول معنى وضرورة التوافق الاقتصادي؛لابد من معرفة أن كل الدول التى شهدت تغيرات حاسمة أدت إلى المطالبة بإحداث تحولات بنيوية، قد أعطت وقتا للوصول إلى توافق اقتصادي. وخاصة أن أحد أهم الدوافع الرئيسية التى أدت إلى انطلاق دورات الاحتجاج على مدى العقد الأول من الألفية الجديدة، التى تكثفت فى حراك 25 يناير كانت بسبب الأحوال الاقتصادية للبلاد…والتى كان من أهم ملامحها: تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتدنى مستويات المعيشة، وعدم القدرة على مد الخدمات والمرافق لأكثر من ثلثى البلاد، بالإضافة إلى تراجع ما تم مده، وتراجع المساحة الخضراء إلى الحد الخطر، والاعتماد على الدخول الريعية لا الانتاجية، وارتفاع نسب الأمراض الخطيرة بين المواطنين، وارتفاع معدل البطالة، وأرقام ضخمة تعبر عن أكثر من عجز في: الموازنة، والميزان التجاري، والمدفوعات، وارتفاع الدين الداخلى والخارجي،…،إلخ. أحوال دفعت المواطنين لرفع شعار غير مسبوق يطالب بحقوق: «الكرامة الانسانية» و«العيش» و«العدالة الاجتماعية»، بالإضافة إلى «الحرية».وعليه لابد من التوافق على الرؤية الاقتصادية للبلاد بشكل تفصيلى أكثر مما جاء فى الدستور ومن خلال حوارات معمقة تسبق تكوين البرلمان…رؤية اقتصادية تضمن حقوق المواطنين على اختلافهم فى الجسم الاجتماعى.

ثانيا: حول مضمون التوافق الاقتصادي؛ لابد من الحديث حول طبيعة النظام الاقتصادى الجديد وتوجهاته، وعلاقاته الانتاجية، والقوانين المنظمة للعمل، ونظامه/أنظمته الضريبية، وسياسته النقدية، وبرامج التوظيف والعمالة، ورؤيته التأمينية بتجلياتها الاجتماعية والصحية، والسياسات الصناعية والزراعية و الثقافية والتعليمية والسكانية والإسكانية والعمرانية والخاصة بالطاقة بأنواعها، وكيف يمكن مواجهة معضلات الاقتصاد التى باتت مزمنة مثل: التضخم، والبطالة، وكيف يمكن ابتكار علاقة منضبطة بين الأسعار والأجور، والمراجعة الشاملة لقوانين الاستثمار، وكيفية تطوير القطاع المصرفي، والمراجعة الشاملة للأنظمة الأساسية للشركات العامة، وكيفية تأمين العدالة التنموية فى كل ربوع مصر…إلخ. كل هذه الملفات، وغيرها، لابد من التوافق عليها ـ بدرجة او أخرى وتستكمل بمجموعة من «التفاهمات» بين أصحاب العمل والعاملين، وبين القطاعات الاقتصادية المتنوعة، وبين الدولة والمجتمع المدنى بمؤسساته(الذى يحتاج إلى توافق على ضرورة تحديثه وتحريره ودوره المتجاوز المفاهيم الخيرية، والمجتمع المدنى أظن انه يحتاج إلى حديث آخر)، وبين منظومة الاقتصاد الوطنى ـمتضافرة العناصر ـ وبين منظومة الاقتصاد الكونى والإقليمي.

ثالثا: كيف السبيل إلى التوافق الاقتصادي؛ إن أى مراجع لتجارب التحول الديمقراطى فى العالم (تجارب إسبانيا وماليزيا والبرازيل وتشيلى وروسيا)، سوف يجد كيف ان الأوضاع الاقتصادية فى هذه البلدان كانت حرجة للغاية. لذا لزم التغيير، والدخول فى عملية معقدة مجتمعية شاملة من أجل التحول الآمن. وكان الملف الاقتصادى على رأس أولوية الحوار الوطني. وكان المشترك فى كل البلدان المذكورة هو أنه لابد من أن يكون هناك شراكة بين الجميع على «تحمل تبعات تجاوز الأزمة الاقتصادية. على أن يتم ذلك بصورة عادلة بين الجميع دون تمييز» (راجع وثيقة مونكلوا الإسبانية ـ 1977)، بين كل الطبقات الاجتماعية والتكتلات النوعية وجماعات المصالح. ولا يستقيم ذلك إلا بالتوافق الاقتصادى من خلال فتح حوار وطنى حول كل الملفات التى تتعلق بالشأن الاقتصادي. ويتم إصدار وثيقة تعبر عن ذلك تكون دالة وإرشادية وحاكمة وتفصيلية للعمل للسلطتين التشريعية والتنفيذية على التوالى… ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern