مصر: الحيوية الكامنة والحياة الثرية

سألنى صديقى، ماذا لديك من أفكار هذا الأسبوع. لم انتبه لسؤال صديقى، حيث كنت افكر أن أبتعد عن كل القضـــايا السـاخنة هذا الأسبوع… فاليوم هو أول أيام عيد الأضحى المبارك، أعاده الله على كل المصريين بالخير والتقدم والنماء…كما نحتفل أيضا بالذكرى الـ41 لحرب أكتوبر.
لذا، لماذا لا نبتعد قليلا عن القضايا الساخنة.


وقبل أن يهم صديقي، بإعادة سؤاله مرة أخري. صارحته بما أفكر فيه، بأننى سأبتعد عن كل ما هو مثير للجدل. فقال لى عن ماذا ستتحدث؟…أجبته سوف أتحدث عن مصر وعن سر استمراريتها عبر آلاف السنوات. مصر التى أعشقها، مصر التى عانت، وكافحت، وتحملت، واستوعبت «ومصرت» كل ما وفد عليها من ثقافات، ولفظت ما تناقض مع جوهرها القومى المركب، وقدمت اختراع الدولة، وأطلقت الزراعة ونظم الرى المعقدة، وقاومت الحكام الوافدين، ونهضت وحولت مجرى النيل وأسست صناعة وانتكست وقامت، وحاربت، وتحرك مواطنوها من أسفل ضد المستبد السياسى والديني، و، و، و،…،إلخ…و»بالبلدى أو بالعربى شافت أشكال وألوان»، عبر آلاف السنين، وظلت «إقليما واحدا ثابتا» (وستظل إن شاء الله)…

وبقيت «مصر/بهية دايما مصر»: حية بحيويتها الكامنة وحياتها الثرية…فما هو سر ذلك؟

أظن أن الإجابة التى ارتاح إليها وإلى منطقها، يمكن أن نجدها لدى محمد شفيق غربال فى كتابه العمدة: «تكوين مصر»،(الذى اتمنى أن يدرس لكل طلبة مصر فى كل المراحل مع تفسيرات تلائم كل مرحلة)…عندما أشار إلى «جدلية الاستمرارية والتغيير»؛…فالقارئ لتاريخ مصر يجد أن هناك دوما عملية تفاعل «حادث بين هذين المبدأين المتقابلين: مبدأ الاستمرار ومبدأ التغير، يكون مادة التاريخ، فما يبدو فى التاريخ مستمرا لا يخلو أبدا من تغير خفى دقيق»…وربما تحمل هذه الفكرة ردا على من يريدون طمس/نفى ما جرى فى 25 يناير…فبمنطق غربال: قد يبدو ان شيئا لم يتغير فى مصر بيد أن اسقاط حاكمين قد أحدث تغيرا حاسما فى مصر، و…قبل ان استطرد نبهنى صديقى إلى اننى سوف اتحدث فى السياسة. شكرته وعدت إلى غربال وإلى مصر.

ولدى «غربال» منهج يطلق عليه:»ملازمة الوقائع»؛ يقوم على السعى إلى عزل أو فصل النواة الأساسية للثقافة المصرية، ثم ملاحظة تأثر تلك النواة بما طرأ من مؤثرات فى الحياة المصرية، ترتبت على وصل مصر طوعا وكرها بالمدنيات والجماعات المتعاقبة غير المصرية…وكانت النتيجة أن مصر بقيت نواتها الثقافية الأساسية مستمرة ـ ولكن ـ دونما انغلاق، حيث انفتحت على ما وفد عليها فكان التغيير حاضرا…ونتيجة لما سبق، يمكن رصد ما يلى:

اكتساب مصر «حيوية كامنة»، جعلتها فى حالة ثورية ـ بالمعنى الواسع للكلمة ـ بصورة دائمة على عكس ما هو شائع بسبب المؤرخين الإغريق واليهود القدامى، والأوروبيين المحدثين.

واتسام النواة الثقافية المصرية بأن تكون ذات طابع «مركب متعدد العناصر»، من الناحية الحضارية: يزدهر فى فترات النهوض من خلال تفاعل مبدع بين عناصره. ويتناحر فى أزمنة التراجع.

ويطرح غربال فكرة غاية فى الروعة خلاصتها أن: «تكوين مصر، كان من صنع المصريين»…لذا يطرح مقولة مغايرة لما هو سائد مفادها أن: «مصر هبة المصريين»؛ وهذا هو سر حيويتها…وأنه، ونظرا لما وفد على مصر، باتت مركبا حضاريا متعدد العناصر، وعليه لا يمكن حبس مصر فى حقبة بعينها أو أسرها فى ثقافة أحادية، وهذا هو سر ثراء حياتها…

وهنا توجهت لصديقى كى اقول له: انتبه هذا ليس حديثا مجازيا، فالمصرى هو الذى «خلق مصر» بتعبير «غربال». فلقد روض النيل على مدى آلاف الأميال من خط الاستواء إلى البحر الأبيض. لأنه دون ترويض فإن هبات النيل تصير كهبات الطبيعة سواء بسواء، طائشة عمياء، إذا ما تركت دون ضبط، فإنها تدمر كل شيء. والإنسان وحده هو الذى يستطيع أن يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة. وقد كان ذلك ما عمله الإنسان فى مصر، وعليه مصر باتت هبة المصريين.

من جهة أخري، وبفعل تواصل مصر مع محيطها بما يضم من مجتمعات أخرى كبيرة من جهة، ودراسة مدى ما أثرت وتأثرت به مصر على الآخرين وعلى ما وفد إليها من أديان وحضارات وثقافات من جهة أخرى كانت حياة مصر من الزخم الذى انعكس على كل شىء فى الواقع.

الخلاصة: مصر تملك حيوية كامنة وحياة ثرية، يصلحان قاعدة انطلاق للمستقبل، شريطة إدراك قيمة مصر.

ونذكر هنا بعض من كلمات فؤاد حداد وندعو مع الداعين:

يارب ولا يتبدل أبدا

حمل الوطن من على أكتافي…

ده الله خلق لى عينين علشان اشوفها/وإيدين أحوطها من الإعصار/ولسان أغنيها/وصبر مؤمن أتابعها ليوم الشمس…

قادر على أن يجعلنا سببا لإطلاق حيويتها واكتشاف ثرائها…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern