كن واقعيا.. واطلب المستحيل

ما إن نطقت بالعبارة السابقة، حتى استوقفنى صديقى فورا منبها لاحظ العبارة تحمل تناقضا صارخا. قلت له: كيف؟.
قال: كيف يمكن أن تتوافق الواقعية مع المستحيل. قلت: حسنا، وواصلت سائلا: هل لديك بديل تقترحه لهذه العبارة. قال لى سريعا، دون تفكير ـ وبثقة، المنطق يفرض أن تكون العبارة كما يلي: كن واقعيا وأطلب ما هو متاح.

علقت: هذا هو تحديدا المأزق الذى علينا أن نتحرر منه، والحلقة الخبيثة التى يجب أن نكسرها. عقب صديقى بنبرة حائرة، بعض الشيء، أفصح عن الذى فى جعبتك وجاوبنى سريعا: ماذا تقصد؟ وكيف يمكن تحقيق هذه الدعوة إذا كانت هناك ضرورة لها؟ بداية، هذا الشعار كان أحد الشعارات التى طرحها الشباب الباريسي، أثناء ثورتهم فى عام 1968. وهى الثورة التى تعد نقطة تحول جذرية بين زمنين، دنيتين، عالمين.. إلخ.

عالم قديم آخذ فى التصدع، وآخر جديد قيد التشكل.. عالم قديم ينتمى لما قبل الحربين العالمية الأولى والثانية له قيمه وأفكاره وثقافته، وعالم جديد ينتمى لما بعد الحرب العالمية الثانية. هذا العالم الجديد الذى أنتج جيلا جديدا يحاول أن يصنع زمنه بشروطه هو، ووفق أفكار يبدعها، ويعمل على تجسيدها من خلال ما يعن له من أشكال تنظيمية حرة يهندسها بنفسه، خارج كل ما هو نمطى ومألوف. لقد أحس الشباب أن هناك عوارا قد أصاب المجتمع وأنه لا يمكن استمرار الحال على ما هو عليه، لذا لابد من تجديد المجتمع أو الكارثة (إذا ما استعرنا عنوان كتاب المفكر الكبير زكى نجيب محمود). واستخدام تعبير الكارثة ليس للتخويف أو الترويع، وإنما لأن الواقع: قد بليت أفكاره وباتت هذه الأفكار تنتمى إلى زمن فات لا يواكب العصر ومستجداته. كما ترهلت مؤسساته للدرجة التى تكاد فيها أن تتوقف ماكينة العمل عن التشغيل، وما يعمل منها يعمل بالحث الذاتي. كذلك تكلست قدرات البعض عن الفعل فأصبحوا خارج الخدمة بالمعنى التقنى والفكرى والحضاري، فلم يعد لديهم سوى اجترار ما يعرفون.

عليه وما إن يصل مجتمع من المجتمعات إلى هذه الحالة، بات لزاما عليه أن يطمح فى طلب المستحيل من خلال تغييرات جذرية وحاسمة. فالحديث عن أنه يمكن وصل ما انقطع من خلال إجراءات إصلاحية قد ينشط الماكينة، ويجدد الأفكار، ويفكك التكلس، كما يحمى البناء ككل من الانهيار، هو أمر ينتمى لعالم الأوهام والأساطير. وهنا تحديدا المأزق أو الحلقة الخبيثة، لأنه: لا يمكن وضع رقعة جديدة على ثوب قديم. وهذا هو تحديدا ما أحس به شباب 68، فعملوا على طلب المستحيل من أجل تأسيس عالم جديد نظيف من كل الشموليات: الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية. ومتحرر من الثنائيات الحدية الصارمة مثل: الدينى والمدني، والفوضى والنظام، جيل الكبار وجيل الصغار، خاصة وأن الحياة أصبحت أكثر تركيبا. ويقينا لايمكن أن يتجاور القديم مع الجديد.

لذا، لابد وأن يكون هناك قدر من الواقعية، ليس بتجميد ما هو قائم، أو قبول الأمر الواقع باعتباره قدرا، أو باستعادة ماض أثبت فشله بحجة أننا كنا أكثر أمانا. وفى الواقع أننا كنا أكثر خنوعا، وكانت هناك قدرة على إخفاء المستور. وعليه ما وقد انكشف المستور من خلال حراك 25 يناير وتمرد 30 يونيو، أصبحت هناك استحالة أن يعود أى شيء إلى أصله (إذا ما استعرنا أحد المفردات الشائعة فى دنيا المحليات حيث بعد حفر أى موقع يتعلق بالخدمات أو المرافق العامة، لابد من إعادة الشيء لأصله بعد الحفر)، ذلك لأن حركة الأوطان ونضالاتها: بنجاحاتها وإخفاقاتها، لا تعود للوراء، بقرار أو ضغوط أو ابتزازات..إلخ. لذا فالضرورة التاريخية والمجتمعية تحتم التغيير الجذرى مهما كان ذلك صعبا وشاقا. وهذا ما يعنيه بدقة عنوان هذا المقال ومضمونه: أن نكون واقعيين ونطلب المستحيل.

انطلاقا مما سبق، أنبه إلى أن هناك من لم يزل يتبع نفس الخطابات والأفكار والممارسات وكأن شيئا لم يحدث فى مصر. خطاب التحذيرات والنواهى فى زمن مفتوح على مصراعيه بامتياز، والرضا بما هو متحقق فى عصر يقوم على التجدد اليومي، واجترار أفكار علمية ومعرفية تنتمى لعصور ماضية انصرف عنها العالم المتقدم، وتبنى توجهات اقتصادية باتت محل مراجعات عالمية، وتصور أن العالم القديم لم يزل قائما وقد تعرض/ ويتعرض لتحولات كونية غير مسبوقة..إلخ. وان ندرك كيف أن هناك كتلة جيلية أصبحت تقابل كل ذلك بمفردات عبقرية أقرب بكلمات المرور الكمبيوترية المختصرة من عينة: كله على قديمه،وإيه الجو القديم ده و إيه جو الأفلام الأسود والأبيض ده.. إلخ. كلمات تعبر عن رفض تام لكل ما هو قديم، أو ما وصفته مرة: قديم ينازع وجديد يصارع؛ علينا أن نكون واقعيين ونطلب المستحيل: أى العالم الجديد.. عالم جديد: حقيقي، وعادل، وإنساني، وعصري.. ونتابع..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern