هذه المرة، ذهبت إلى صديقى، فرحا، قائلا له: «لقد حدث ما كنت أتمنى أن يحدث». فقال لى ما هو» … أن تخرج شرائح الطبقة المتوسطة لتشترى شهادات الاستثمار الخاصة بمشروع قناة السويس الجديد… رد على صديقى: «وماذا فى هذا؟»…
قلت له: «الدلالة الرمزية من جهة، ودور الطبقة الوسطى من جهة أخرى والذى حاولت أن أشرح تاريخها وأفقها المستقبلى، على مدى مقالين الشهر الماضى»…فقال لى صديقى هل يمكن أن تزدنى وتذكرنى بما تقصد وكتبت…
بداية، لابد من إدراك أنه وبالرغم من الإظلام الذى ساد مصر يوم الخميس الماضي، فإن الطبقة الوسطى استطاعت من قلب هذه «الظلمة» أن تمنح «النور» فى أرجاء مصر، وذلك بشراء شهادات استثمار بما قيمته ستة مليارات جنيه فى ست ساعات، تأكيدا على أن بناء مصر الجديدة هو أمر مرهون باستجابة هذه الطبقة فى المقام الأول، كيف؟
أولا: نُذكر بأن الطبقة الوسطى قد ولدت من رحم الدولة الحديثة، بتأسيس مؤسسة الجيش، والجهاز الإدارى، ومؤسسات الحداثة المتنوعة، وظلت هى قاعدة التقدم والحداثة المصرية المدنية فى الفترة من 1919 إلى 1969. وظلت محل رعاية الدولة وسياساتها حتى مطلع السبعينيات عندما تم التخلى عنها، بتغير التركيبة الاجتماعية للسلطة. وعليه بدأت فى أن تعتمد على نفسها. إما بالسفر إلى دول النفط، أو العمل لدى شبكة الامتيازات المغلقة وقبولها بما «يتقطر» (من قطرات) من مال، أو بانخراطها فى الاقتصاد غير الرسمى، وهو ما مكن شريحتها العليا أن يشتد عودها، ومن ثم تبحث عن الشراكة فى السلطة والثروة. وواكب ذلك تململ شريحتيها الوسطى والدنيا، ما اضطرهما أن يعلنا عن ذلك من خلال دورات الاحتجاج المتتالية والمتوازية فى العقد الأول من الألفية الثالثة بحثا عن حياة أفضل. والنتيجة كانت حراك 25 يناير ضد الاستبداد السياسى، وتمرد 30 يونيوضد الاستبداد الديني. طالبة ما أطلقت عليه: «الشراكة المزدوجة»: اقتصاديا وسياسيا ومدنيا؛ مؤكدا ضرورة فهم أن القاعدة الاجتماعية التى يمكن للسلطة الجديدة أن تركن إليها هى الطبقة الوسطي، ومن ثم ضرورة اتاحة الفرصة أمامها…لماذا؟،قبل الإجابة، نشير إلى أمر مهم.
ثانيا:أن هذه الطبقة، قد تعلمت خلال فترة «الإقصاء» السياسى والاقتصادى، ضرورة أن تعتمد على نفسها، بعد أن تخلت الدولة عن دعمها. وفى نفس الوقت كانت دروس ضياع ما وفرته هذه الطبقة عدة مرات من مال «بذراعها» (مع توظيف الأموال، وحرب الخليج الأولى،…،إلخ)،كفيلة أن تعى كيف يمكن أن تأمن شر التوجهات الاقتصادية، والسياسات الموضوعة على مقاس عناصر شبكة الامتيازات المغلقة، دون غيرهم. وعليه كانت البنوك الوطنية هى المكان الآمن، والمشروعات المتوسطة والصغيرة، وغير الرسمية هى الضامنة لحماية جنيهات الطبقة الوسطى من الضياع من جهة، و«سترها» من جهة أخري…وعليه يمكن الإجابة عن لماذا؟ المؤجلة…
ثالثا: حصدت بنوكنا الوطنية عوائد عمل هذه الطبقة، التى شكلت الرصيد التريليونى الكبير لهذه البنوك، التى للأسف لم تعرف تشغيلها أو استثمارها فيما هو استراتيجى وانتاجى يبنى الوطن بحق… فانزلق فى الأغلب فى إعادة انتاج الاقتصاد الريعى/الاستهلاكى… فى الوقت الذى كانت فيه مصر تستدين وتتلقى المعونات، ومؤخرا تترجى من القلة الثروية/ عناصر شبكة الامتيازات المغلقة بعض من ملياراتها، التى فى الأغلب خارج البلاد، وتنتظر المنح من البعض…دقت ساعة العمل الجدى، فلم يكن هناك إلا الطبقة الوسطى…
رابعا: فما أن اطلقت مصر مشروعا استراتيجيا تحت رعاية البنك المركزى وفى إطار بنوكنا الوطنية، استنهضت فيه الطبقة الوسطي، فسارعت تدفع من جنيهاتها التى أسكنتها حضن الوطن لدعم مشروع وطنى من المفترض أنه ذو جدوى اقتصادية واستثمارية مضمونة، فبيعت شهادات استثمار بما قيمته ستة مليارات من الجنيهات فى أقل من ست ساعات، ما يعنى أن بناء مصر الجديدة بات مشروطا بعدة أمور وذلك كما يلى: اولها: الإكثار من المشروعات ذات الطابع القومى برعاية البنك المركزى بتاريخه الرصين فى حماية مقدرات البلاد، شريطة التوجه إلى مشروعات انتاجية تواكب العصر تنتمى إلى اقتصاد المعرفة تعكس رؤية تنموية لمستقبل مصر. ثانيها: لأن الجهاز المصرفى المصرى هو أحد الأجهزة الأكثر حداثة ـ لأسباب كثيرة ـ هو الأكثر جذبا للطبقة الوسطى فيما يتعلق بمدخراتها واستثماراتها، وليس التبرع لصناديق يتحمس لها المصريون ثم سرعان ما ينصرفون عنها (وهناك خبرات تاريخية تؤكد ذلك مثل: حملة تسديد ديون مصر) أو استجداء التبرع من أفراد وهى أشكال غير حداثية وقابلة للتعثر. لذا فكلما «أنحزنا» إلى الحداثة كلما «أنجزنا» (وأظن تجربة طلعت حرب بشركاته تثبت ذلك). ثالثها: يبدو لى أن جنيهات الطبقة الوسطى القليلة ـ هى التى ستبنى مصر الجديدة…ويتبقى أن نفتح لها النوافذ السياسية والمدنية وبخاصة من خلال حرية التنظيم المدني، الضلع الثانى فى المعادلة الوطنية القادمة…ونتابع…