فى هذه الأيام تحل الذكرى الثامنة لرحيل أديب مصر الكبير نجيب محفوظ ـ الحائز على نوبل منذ ربع قرن من الزمان. وبهذه المناسبة قرأت بعض الكتابات التى تتحدث عن نجيب محفوظ والثورة.
كذلك شاهدت بعض البرامج التى تحتفى بالرجل وهو أمر حميد ولاشك. ولكن الإشكالية تبدأ عندما يتطرق الحديث عن الثورة والتغيير، وفورا يربط المتحدث أو الكاتب بين محفوظ وثورة 1919. ويتم استدعاء كتاباته المبكرة التى تناولتها. وكأن الرجل توقف عند هذه الثورة، بالرغم من حرصه على الإبداع حتى النفس الأخير، ومثابرته على متابعة كل ما يدور فى مصر تفصيلا. ووعيه اليقظ لما يحدث فى مصر تفصيلا، ما جعل أدبه ليس فقط معبرا عن أعماق مصر وإنما أيضا أن يكون رؤيويا، بامتياز، وأن التغيير قادم قادم.
دعونى أبدأ من آخر ما كتب نجيب محفوظ، وأظنه أعمق ما كتب ذلك لكثافة اللغة التى تقترب من لغة التواصل الاجتماعى المعاصرة، وذلك عندما كتب فى مستهل عمله: أصداء السيرة الذاتية التى بدأ كتابتها فى 1995 وظل يضيف إليه ـ مع عمل آخر من أهم كتب فى الأدب العربى المعاصر هوأحلام فترة النقاهة (2004)؛ وتحت عنوان: دعاء، ما يلي: دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح إلى مدرستى الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن. بيدى كراسة وفى عينى كآبة، وفى قلبى حنين للفوضي، والهواء البارد يلسع ساقى شبه العاريتين تحت بنطلونى القصير وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا. غمرتنى موجة من الفرح طارت بى إلى شاطئ السعادة. ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد.
هذه الدعوة، أظنه،ـ قد حملها فى قلبه على مدى عمره المديد، حيث تجلت فى كل أعماله التى خرجت عن كل ما هو مألوف فى الأدب العربي. القارئ لأعمال نجيب محفوظ سوف يلحظ كيف أن الثورة، والانتصار للمهمشين، والبحث عن المدينة الفاضلة والنظام الأمثل، هم عناصر أساسية فى كل ما كتب، بشكل عام. وعلى التوازى سوف نجد كيف كانت لديه القدرة ـ بالرغم من سنه ـ على التقاط التحولات التى تحدث فى مصر، وأن يواكب كل ما يطرأ على الواقع المصرى من ظواهر ومستجدات. فهو أول من كتب عن الانفتاح وتداعياته فى أهل القمة، وعن أزمة الشباب المركبة: الاقتصادية، وعدم القدرة على الزواج.. فى الحب فوق هضبة الهرم.. إلخ.
وحول 25 يناير، أستطيع أن أقول إنه من أول الذين حذروا من سوء الأحوال فى منتصف التسعينيات والتحذير من تداعيات هذا السوء فى أكثر من مجموعة قصصية. وذروة ما كتب فى هذا المقام نجدها فى مجموعته القصصية صدى النسيان (1999)، ونقرأ كيف رأى أديبنا مستقبل الحارة.
أولا: فى قصة الهتاف؛ ها هو أبو عبده يعود إلى الحارة وبالرغم من طلاء الأبهة والعباءة والعمامة والعصا والمركوب، فقد عرفه كثيرون. .فلقد راحت الخرابة تتحول إلى سراى لينزل به ذلك الرجل الذى غادر الحارة إلى أطراف الحى وجمع ثروة ضخمة من أحط السبل .. وعاد لممارسة سيادته.. ولما حاول شيخ الحارة أن يلفت نظره إلى ابتعاد الناس عنه.. طمأنه أنه سوف ينجح فى كيف ينوه الناس عنه وعن مشروعاته وأعماله الخيرية.. وبدأ يغازل الناس بالمال الذى لا يراه أهل الحارة إلا كل حين ومين.. وهنا همس شيخ الحارة فى أذن الإمام: أذكر هذه اللحظة التعسة فقد تكون بدء تاريخ طويل من الفساد فى حارتنا الطيبة.. قال هذا وهو لا يهمه نوايا أبو عبده فكل ما يهمه هو: الأمن العام.. إفساد نعم ولكن دون خلل بالأمن العام..
ثانيا: قصة تحت العمامة عريس ووصلا لما سبق يرد فى هذه القصة: لا يصح أن يزعزع أى شيء أمن الحارة مر الوقت على الحارة.. وبدت ناسية تماما لعهد البطولة والأبطال..
كان هذا ما يشغل بطل القصة (حافظ) الذى دفع ثمن بطولته من عمره، وراح يتذكر القدر وهو يلعب بالبطولة والخيانة ويوزع الأبطال والخونة ما بين السجون والمتاجر. بيد أن شيخ الحارة أخذ ينصحه بأن يعمل فالسوق تسع الجميع وعليه ألا يتذكر ثانية الأبطال والخونة، لأن الأمور نسبية.. ولأن القانون لن يسمح بغير ذلك.. رد عليه حافظ: هذه الوكالة فتحت بالمال المدفوع ثمنا لخيانتنا، فهل ترضيك هذه القسمة؟ أجابه: قانون الحارة الجديد هو قانون السوق، فلا مكان للذاكرة، ولا مكان للأبطال..
ثالثا: فى نفس الحارة وفى نفس المجموعة القصصية، نجد «قصة قصة الأرض» يتناول الكاتب واقعة حدوث زلزال مفاجئ للحارة، مدته لم تتعد 30 ثانية ولكنها كانت كافية لكى تفصل بين مشهدين متناقضين، حيث فى غمضة عين انكشف كل شيء.. وأظن هذا ما جرى فى 25 يناير.. ونتابع..