من «صوت الجماهير» إلى «الكتل التصويتية»

يعتمد التصويت الانتخابى فى صورته المثالية على محصلة ثلاثة أمور: أولا التطور الاقتصادى وإدراك الناخب لمصالحه الاقتصادية، وثانيا التطور السياسى والمدنى وقدرة الناخب على أن ينتظم فى التنظيم السياسي/ المدنى الذى من شأنه أن يدافع فيه عن حقوقه

 وثالثا الوعى باللحظة التاريخية وإعمال الاختيارات الصحيحة البعيدة عن المشاعر والحسابات الضيقة. فى هذا المقام، حاولنا تأمل طبيعة تصويت المصريين خلال عملية التحول الديمقراطى«بدوراتها الانتقاليه»؛ وما جديدها؟ لكن قبل الإجابة على ذلك، سوف نحاول إلقاء الضوء على المسار التاريخى لتصويت المصريين خلال أكثر من ستة عقود، آخذا فى الاعتبار العلاقة الوثيقة بين السياق التاريخى الذى يحكم النمط التصويتي، وصولا للحاضر.

أولا: مرحلة الزعيم، الجماهير؛ وهى المرحلة الزمنية التى أطلق عليه: يوليو الثورة؛ حيث التصويت يتم بصورة تلقائية من قبل عموم المصريين بصورة أشبه بالتوكيل أو التفويض أو التوقيع على «بياض»للزعيم المنحاز إلى «الغلابة» ويراعى بحساسية شديدة الطبقة الوسطي.

ثانيا: مرحلة التنظيم الواحد، الجماهير؛ وذلك عندما انتقلت يوليو من الثورة إلى الدولة؛حيث وعى الزعيم ضرورة تأسيس تنظيم سياسى يعبر عنه. وهو التنظيم الذى عرف بأنه تنظيم تحالف الشعب العامل. وهو التنظيم الذى عمل على تعبئة الجماهير على اختلافها مع مراعاة «الغلابة» ومصالح الطبقة الوسطى فى العموم.

ثالثا: مرحلة الحزب الحاكم/الجماعة الدينية وأحزاب الأقلية، الزبائن السياسية؛ وهى المرحلة التى تم إطلاق الأحزاب فيها وتم تقاسم العمل السياسى فيها بين ما أطلقت عليه مبكراالشبكة»و«الجماعة» (أقصد شبكة الامتيازات المغلقة أو القلة الثروية وبين الجماعة الدينية) مرحلة يوليو المضادة، وكان التنافس بينهما ليس حول برامج سياسية بقدر ما كان حول خدمات عينية ومادية تقدم للمواطنين، وذلك لتعويض الآثار السلبية للسياسات الاقتصادية التى طالت الشرائح الوسطى من المجتمع وبالأكثر الشرائح الدنيا. وعليه تحولوا عمليا بحسب التعبير المتعارف عليه إلى «زبائن سياسية»؛ وهذه المرحلة امتدت إلى ما يقرب من ثلاثة عقود.

رابعا: مرحلة الديناميكية المجتمعية الحرة، كتل تصويتية؛مع انطلاق حراك 25 يناير، الذى درسناه مطولا باعتباره بالأساس، حراك الطبقة الوسطي، انفتح المجال العام: السياسى والمدني، بعض الشيء، كما انكشف الملعب السياسى للمرة الأولى منذ ستة عقود، وغاب حزب الدولة،كما لم يعد هناك حزب حاكم، وبالتبعية غابت البيروقراطية بجناحيها الإدارى والأمني، بإرادتها أو بغير إرادتها. وعليه، وجدنا انطلاقة للمواطنين غير مسبوقة فى الدولة الحديثة، حيث باتت المواطنة «فعلا»؛ وأصبح كل مواطن، فى ضوء وعيه، يتحرك فى سياق «ديناميكية مجتمعية حرة»؛لم يعرفها المصريون على مدى ستة عقود.

صحيح تشكلت أحزاب أضيفت إلى الأحزاب القائمة. لكنها فيما أظن كانت أقرب إلى أن تكون «أذرع سياسية» للتكوينات الدينية من جهة، وللتكوينات المالية من جهة أخرى بحسب ما ذكرنا مرة مبكرا عقب انتخابات 2011 البرلمانية، أو كيانات تضم ألوانا متنوعة متعارضة المصالح. واختزال العمل السياسى فى بعده الثقافي:«مدنيون» فى مواجهة «دينيين» ليبراليون فى مواجهة سلفيين .. إلخ. لذا لم تستطع هذه الأحزاب أن تستوعب القادمين الجدد إلى السياسة بتنويعاتهم المختلفة وبحسب المصالح الاقتصادية/الاجتماعية، كما هو متعارف عليه فى المجتمعات التى نجحت فى إحداث تحول ديمقراطى معتبر، حيث العلاقة بين المواطن و الحزب تعبر عن فئات وطبقات اجتماعية محددة، وليست مختلفة متعارضة.وظنى أن الانتخابات الرئاسية فى 2012 بجولتيها كانت كاشفة اننا أمام كتل تصويتية حتى داخل التيار الواحد. وينبغى استيعابها وتسكينها فى كيانات تعبر عنها بدقة.

وإذا كان النموذج الأمريكى منذ تأسيسه قبل بنظام الحزبين الكبيرين اللذين يعتمدان على الكتل التصويتية فى الانتخابات. فإن هذا يتم للتضييق على التنافس السياسى على أسس اجتماعية طبقية، على عكس أوروبا. وإذا كانت الثروة التى بلا حدود فى أمريكا قادرة على تأجيل الصراع المجتمعي، فإن الأزمات المالية المتتالية لن تسمح بذلك.

الخلاصة، هناك ضرورة لتأمين تسكين هذه الكتل التصويتية، والتى تعد بالنسبة لمسار التصويت تاريخيا أمرا إيجابيا ـ فى أماكنها السياسية والمدنية الصحيحة، والانتباه إلى أنه إذا اعتبرنا ما جرى قد جدد شرعية الجمهورية التى تأسست مع

وليو، وللدولة الحديثة، فإنه لابد من الانحياز إلى التجدد والانفتاح بما يتجاوز الخبرة التاريخية. ذلك لأن الحركة الحرة المجتمعية لها سقف من واقع خبرات الآخرين إما يتم تنظيمها أو ستكون أساسا لانطلاقة حراكية جديدة أو تعود هذه الكتل التصويتية إلى دوائر الانتماء الأولى مما يمثل انتكاسة ليس فقط للتحول الديمقراطى وإنما للدولة الحديثة. وهو ما ينقلنا للحديث عن التنظيم السياسى. ونواصل..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern