مقومات دولة الحماية الاجتماعية للمواطن

يتصاعد الاهتمام بقيمة دعم دولة «الحماية الاجتماعية» للمواطنين، في المجتمعات التي تتزايد فيها الفجوة بين الأكثر غنى، وبين الأكثر فقرا، وبين الأجيال، والجنسين، والشمال والجنوب، وبين الحكام والمحكومين

 وبين من في الصدارة والمنسيين، والمهمشين، وبين من يمنحون فرصا لا حصر لها، والذين تنعدم الفرص المجتمعية أمامهم…الخ، حول كيفية ابتكار سياسات اجتماعية تؤمن العدالة، والكرامة الإنسانية، والمساواة بين الجميع على اختلافهم، وخاصة إذا ما تبين أن السياسات العامة التي كانت مطبقة في لحظة تاريخية سابقة، قد أسهمت في الدفع نحو توسيع الفجوة بين المواطنين.

الأكثر، أنه تزداد التوقعات، إذا ما تحرك هؤلاء المواطنون ضد هذه السياسات في لحظة تاريخية معينة، ما يعني ضرورة تغيير السياسات الفاشلة لتلبية تطلعات الحراك الثورى. ولاشك من صعوبة الأمر، لأنه يصبح من المطلوب التصدي لمهمة مزدوجة: أولا، حماية الذين تضرروا من مرحلة سابقة، وثانيا، معالجة تداعيات المرحلة الانتقالية وحماية المواطنين من آثارها، وذلك حتى تستقيم الأمور في إطار مشروع تقدمي شامل، يقوم بالجميع ومن أجل الجميع، أي علينا أن نتفق أولا على مقومات هذا المشروع ـ الأساس، الذي يؤمن حضورا للمنسيين والمهمشين، و«يعدل» ـ بعض الشيء مع سياسات انحازت لغيرهم، أي للقادرين تحديدا. وبعد وضع عناصر هذا المشروع الذي يؤمن انطلاقة لمظلة«حمائية» لكل المواطنين، يمكن الحديث عن التفاصيل التي تتعلق بالسياسات الاجتماعية الخاصة بكل عنصر من مقومات الحماية الاجتماعية، وبخاصة في مراحل الانتقال. وفي هذا السياق نطرح في عجالةـ ستة مقومات للحماية الاجتماعية وذلك كما يلي:

أولا: تأمين مصادر الحياة الأساسية؛ من طاقة ومياه، فليس من المتصور أن تظل مجتمعات كاملة على أرض مصر لا تصل إليها المياه النظيفة، أو تكون مختلطة بمياه الصرف، وفي نفس الوقت تكون في حالة تهديد دائم بنقص الطاقة المتمثلة في الغاز ـ البوتاجاز والكهرباء.

ثانيا: الدمج في عملية تنموية شاملة؛ لابد مراعاة حضور كل المواطنين في إطار عملية تنموية شاملة. ما يستوجب بالطبع وجود عملية تنموية من الأصل تكون قادرة على استيعاب كل مواطن. وهو ما يستدعي الأخذ بالاقتصاد المركب الانتاجي: الزراعي والصناعي والتكنولوجي والمعرفي، ومراعاة قوانين العمل والتشغيل وفق المعايير العالمية والانسانية العادلة المتعارف عليها وتأمين مداخيل مقبولة.الخ، ويمكن دراسة النماذج: الماليزية والبرازيلية والهندية والروسية في هذا المقام، شريطة أن يراعى أن الدمج يعني تقاسما للثروة العامة للبلاد من خلال توزيع عادل بين مواطنيها. كما يؤهلها أن تعرف ابداعات ومهارات انتاجية جديدة.

ثالثا: تأمين الحاجات الأساسية الإنسانية،لابد من أن يحظى كل مواطن بحقوقه الأساسية في إطار من المساواة بين الجميع: من يملك ومن لا يملك، بين من يحظى بمكانة ولا يحظى، أو يعرف دهاليز الحكومة فتمكنه من الحصول على الحقوق، بينما يحرم من لا يعرف هذه الدهاليز، أو يعود إلى دوائر الانتماء الأولية مكرسا انغلاق الجماعات الأولية، بخاصة في التعليم والصحة، والعلاج والإسكان، والزواج، والمأكل والمشرب..الخ.

رابعا: مواجهة الآثار السلبية للحداثة في مجتمع متخلف؛ لعل من أهم الإشكاليات التي تواجهنا كيف يمكن مواجهة الكثير من التداعيات التي تشهدها المجتمعات عقب لحظات التغيير الكبرى، وخاصة مع انفتاح الحدود وفعل العولمة الاقتصادية وسهولة التواصل الاجتماعي العابر للحدود والذي لم يعد يميز بين غني وفقير، بيد أنه يسر تداول المخدرات وتعاطيها، ومحاكاة نماذج من العنف تحدث في المجتمعات المتقدمة أو تسوق لها عبر منتجاتها الثقافية.

خامسا: تفكيك ثقافة وبنى التخلف؛ فلم يعد مقبولا أن تظل ثقافات تعيش على أرض الوطن تعلي من قيم ما قبل الحداثة وما قبل الدولة الحديثة، وتسيج نفسها بسياج يعزلها عن الاندماج، أو تفرض عليها قيود تجعلها مهمشة، وتترك هكذا دون مبادرات وطنية لتيسير دمجها في إطار دولة الحماية الاجتماعية للمواطنين، وهو ما لن يحدث ما لم تمتد إليها السياسات الاجتماعية الجديدة.

سادسا: ضمان إطلاق حرية التنظيم القاعدية؛ والتي تعد أحد أهم مقومات دولة الحماية الاجتماعية التي تضمن حضورا فاعلا معترفا به في الإطار الوطني العام وليس موازيا له من جهة. كما تعكس وعيا بأن هناك ديناميكية بازغة، لاعتبارات كثيرة: سياسية، وجيلية..الخ لابد من تفهم وجودها، ومن ثم فتح أفق التعبير، بأنواعه، أمامها، للحيلولة دون اتباع مسارات عنفية أو العزلة، أو..الخ.

ما سبق، مقومات ستة لدولة الحماية الاجتماعية. لابد من ترجمتها إلى سياسات اجتماعية تكون على وعي بالتناقضات بين الرؤى السياسية المختلفة، وتجتهد في إيجاد صيغ توافقية للسياسات الاجتماعية قابلة للتطبيق تدعم تقدم الوطن من جهة وتعالج تداعيات الواقع من جهة أخرى…وفي المحصلة تحقق حماية اجتماعية للمواطنين في لحظة انتقال حرجة. وهو ما نناقشه فى مقالنا القادم.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern