من يستطيع أن يوقف المطر؟

سؤال طرحه أحد الباحثين حول حركة الشباب المتصاعدة خلال حقبة الستينيات في الولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ مع تنامي موجة الحركات المدنية والحقوقية‏,‏ التي كان الشباب يعد المحرك الرئيسي لها‏.‏ ما دلالة السؤال وأهميته؟ وكيف يمكن لنا الاستفادة منه؟

واقع الحال, مثلت حركة الشباب في الستينيات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية, لحظة تاريخية فارقة في تاريخ هذه المجتمعات تبين من خلالها أن الشباب, لاعتبارات كثيرة, هم العنصر الفاعل فيها, ما جعل البعض يقول: إنه مثلما قالت الماركسية إن هناك طليعة طبقية تقود عملية التحول الثوري في سياق الصراع الطبقي, فإن الحراك الشبابي العارم أصبح قوة دافعة للتاريخ من أجل التقدم. لذا وصف هذا الحراك بالمطر الذي انطلق وبات يصعب إيقاف تداعيات انهماره.

لقد كان المطر المنهمر كاشفا للكثير من عورات المجتمع وإشكالياته المعقدة. كما كان إشارة إليغروب زمن قديم وبزوغ زمن جديد. لذا قال أحد الباحثين إن الحراك الشبابي الهادر الذي شهدته المجتمعات الغربية لا يمكن أن يستوعب بهدوء في سكون الليل, لأنه كان نقطة تحول حملت بزوغا جديدا, أو بلغة أخري مثل الشروق الشبابي, ونورا جديدا في كل مناحي الحياة لا يمكن أن يواري أثره أو تأثيره لما أحدثه من تجديد روح وواقع هذه المجتمعات.
ويرصد لنا أحد الباحثين كيف باتت حركة الشباب في الستينيات ملهمة لكثير من الثورات التالية, بدرجة أو أخري, خاصة في المجتمعات التي طالها الركود والترهل. فبعد عقدين من الزمان, نهاية الثمانينيات, تحطم سور برلين بيد الشباب الذين انتشروا يفرضون مطالبهم مثلما فعل شباب الستينيات. وكيف أنه مع كل موجة شبابية ثورية يتشكل واقع جديد تفرضه الأجيال الشابة, وتفرض معه أن تتغير البني التعليمية والثقافية والدينية والاجتماعية والسياسية مهما طالت المقاومة. وهو الواقع الذي عبر عنه فريق البينكفلويد بأغنيته الشهيرة الجدار, حيث تقول كلمات الأغنية: أيها المدرسون لا نريد المزيد من التعليم, أيها المدرسون اتركوا الطلبة وحججهم. والمشاهد للفيلم المعبر عن الأغنية سوف يجد أن الفكرة المحورية فيه تدور حول رفض التسلط الأبوي والتعليم القائم علي التنميط وعلي التحرر التام من فرض واستنساخ نماذج تفكير وسلوك من بنك التاريخ من قبل الأجيال القديمة. قد يقول قائل إن التمرد هو سمة الشباب, ما الجديد؟

الجديد الذي كرسته الستينيات هو أن جعلت الكتلة الشبابية تتوحد كرمز للمستقبل في مواجهة الشموليات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. فحملت هموم الوطن في مواجهة شبكات المصالح المغلقة. وبدأت في طرح الأسئلة بشكل واضح وصريح. فعلي سبيل المثال تشكلت في الولايات المتحدة الأمريكية حركة مقاومة حرب فيتنام, حيث بدأ الشباب يطرح الأسئلة التالية حول الحرب: مدي عدالة الحرب, ومن المستفيد من انطلاقها واستمرارها,.. الخ. وعليه تم توظيف التمرد كطاقة إلي أن يكون حالة ذهنية: تطرح أسئلة وتضغط وتناضل من أجل أن تعرف الحقائق وتتلقي إجابات واضحة عما تطرحه من أسئلة. معلنة أنه انتهي زمن احتكار أصحاب المصالح في وضع الأسئلة وفرض الإجابات علي هؤلاء الشباب. في الوقت نفسه, أدي ترهل المؤسسات القائمة وعدم قدرتها علي مواكبة تطلعات الأجيال الشابة الصاعدة التي ولدت مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلي هذا التمرد العارم علي كل ما هو قائم. لقد أثارت حركة مايو1968 تساؤلات كبري حول المجتمع بما يحمل من قيم وتوجهات ومؤسسات.

وبهذا اقتنص الشباب حق إثارة التساؤلات من شموليات كانت تفوض نفسها في ذلك وتحول دون أن يكون للشباب أي دور. كما رأي الشباب الأحزاب والنقابات ومؤسسات الدولة لا تضم إلا الموالين أو المقربين. فانتفضوا خارج هذه الكيانات التي اعتبروها ترهلت وتجاوزت صلاحيتها.
وإذا ما انتقلنا إلي واقعنا المصري, سوف نجد أننا لم نستطع أن ندرك حجم ما طال الشباب من تحولات, كما لم نلتفت لمن دق جرس الإنذار حول هذه التحولات. وفي هذا المقام أذكر فيلم خيري بشارة أيس كريم في جليم(1992); والذي نبه إلي أن هناك جيلا شابا قادما يريد أن يعبر عن نفسه وأن يعيش ما يحلم به هو ويغني الأغاني التي تعبر عما يشعر به, لا يستدعي أغاني من زمن فات,ـ وإن كان هذا لا يعني ألا يتعرف عليها ويتذوقها ويقدرها.. ورويدا رويدا وجدنا الشباب يصنع عوالم مستقلة به وينقطع عما سبقه ويتطلع إلي ما يظنه أفضل( راجع مقالنا السابق: المسألة الشبابية في مرحلة التحول). ومرت الأيام, حيث زاد تكلس المؤسسات والتي بات من أهم معالمها بقاء المسئول في مكانه لما يقارب الثلاثة عقود, كما زادت الإجابة بالنيابة عن الشباب. لذا كانت25 يناير لحظة حقيقة فاجأتنا فيها الكتلة الشبابية رافعة الغطاء عن الكثير والكثير. والأكيد أننا لم ندرك بعد كيف يمكن التعاطي مع المسألة الشبابية, حيث تسود سياسة اليويو هذا إذا ما استخدمنا تعبير أحد الباحثين في حركات الشباب حيث في فترات التحول والانتقال يسود عدم التواصل والشكوك والتردد.
إن ما نحتاج إليه هو ابتكار سياسات شبابية وآليات جديدة تتجاوز الأشكال التاريخية والتقليدية التي نعرفها, تأخذ في الاعتبار أن المطر الذي انهمر لا يمكن وقفه. ونواصل الحديث..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern