التحول الديمقراطي في دورته الانتقالية الثالثة

بعد ظهور نتيجة الاستفتاء‏,‏ يمكن القول إن مصر قد بدأت دورتها الانتقالية الثالثة‏,‏ في سياق عملية التحول الديمقراطي التي بدأت في‏25‏ يناير قبل ثلاثة أعوام‏,‏ بفعل انطلاق الحراك الشبابي الشعبي‏.‏

يبدو لي أنه من الأهمية بمكان أن نعرف ماذا نقصد بالدورة الانتقالية, ومن توصيف الدورات الانتقالية الثلاث لعملية التحول الديمقراطي منذ يناير2011 وإلي يومنا هذا. وأهمية الدورة الانتقالية الراهنة في إنجاز تحول ديمقراطي آمن,كما أشرنا مرة. ومن واقع خبرة كثير من الدول, لم يحدث أن تحقق التحول الديمقراطي, الذي يعني الانتقال بالدولة ـ المجتمع من الاستبداد إلي الديمقراطية أو من حالة سلطوية متخلفة إلي واقع ديمقراطي متقدم, مرة واحدة, فالانتقال يتراوح بين: الجذرية الثورية, والإصلاحية التدريجية, وتارة بفعل ضغط المواطنين, وتارة بالاستجابة الاستباقية من قبل السلطة لإحداث التغيير. وفي غالب هذه الخبرات تكون المرحلة الانتقالية واحدة. قد تطول أو تقصر ولكن لا تتقلب فيها الأحوال من النقيض إلي النقيض. وفي الوقت نفسه تركز الفترة الانتقالية علي إحداث تغيرات بنيوية في البني المجتمعية المتعددة: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, بما يضمن تحقق تحول ديمقراطي حقيقي.


لم يحدث ذلك في الحالة المصرية, حيث وجدنا انتقالا للسلطة من النقيض للنقيض. ووجدنا معارك حول أسس وجود الوطن/ الدولة المصرية. لذا تعددت الدورات الانتقاليةCyclesofTransition, وهو مصطلح جديد نطرحه للإضافة علي أدبيات التحول الديمقراطي, أتمني أن يكون موفقا. فوجدنا دورة انتقالية أولي في الفترة من25 يناير2011 إلي الإعلان الدستوري الذي أعلنته السلطة السياسية الجديدة في21 نوفمبر2012, ثم دورة انتقالية ثانية بدأت مع انطلاق حركة تمرد والخروج الوطني الواسع في30 يونيو إلي الانتهاء من استفتاء14 يناير الحالي, والدخول في دورة انتقالية جديدة في ضوء إعلان نتيجة الاستفتاء. ونوجز طبيعة كل دورة وأهم ما انشغلت به:
الدورة الانتقالية الأولي: الدفاع عن الجمهورية; وقد بدأت مع انطلاق الحراك الشبابي الشعبي في25 يناير.2011 وأقصد بالدفاع عن الجمهورية أن التوريث من جهة والتمديد من جهة أخري, كانا محوري دورات الاحتجاج في الفترة من2004 إلي.2011 والمتأمل في هاتين القضيتين بعمق يدرك أنهما يضربان في العمق فكرة الجمهورية بالمعني السياسي العميق. ويضيقا السلطة السياسية علي المقربين فقط وما أطلقنا عليه مبكرا شبكة الامتيازات المغلقة, أخذا في الاعتبار أن الجمهورية هي أحد انجازات ثورة يوليو بكل دلالاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية. وأظن أن الصراع علي المكشوف بين القوي السياسية في ظل مؤسسات مترهلة أصابتها الشيخوخة قد جعل المسار الثوري, بالرغم من استمراريته أن يؤمن استمرار الفكرة الجمهورية.


الدورة الانتقالية الثانية; الدفاع عن الدولة الوطنية الحديثة بكل تجلياته; كما أشرنا في أكثر من سياق كان من المفترض أن تعبر السلطة السياسية المنتخبة بعد حراك25 يناير عن تطلعات المواطنين جميعا دون تمييز. بيد أنها جاءت ولديها مشروعها ـ الذي يخصهاـ وهو مشروع يناقض مشروع الدولة الوطنية الحديثة/ مشروع دولة محمد علي. والقارئ لإعلان21 نوفمبر وكثير من الممارسات كيف تم التحرش بسلطات الدولة الحديثة, كذلك محاولة انشاء كيانات موازية بالإضافة إلي تغيير طبيعة الدولة الوطنية المصرية والإخلال بثوابت الدولة المصرية فيما يتعلق بأمنها, وحدودها, وعلاقاتها, وبالأخير تكريس الدولة الدينية..إلخ.


الخلاصة, أنه بدلا من أن تتضافر الجهود في دعم التحول الديمقراطي لمصر, وترجمة الفعل الثوري الميداني القاعدي الذي جسد المواطنة المصرية: الفعل; إلي تصورات وآليات مؤسسية تحقق أحلام المصريين. استهلكنا جميعا في الدفاع عن أسس ومقومات الوجود المصري الطبيعية والمكتسبة بالنضال. الوطن المصري ودولته التاريخية, والدولة الحديثة بأركانها الأساسية, الجيش, والجهاز الإداري, ومؤسسات الحداثة المختلفة, وأخيرا الجمهورية المعني والمبني.
إذن مضت الدورة الانتقالية الأولي في إعادة الاعتبار لمفهوم الجمهورية ووجهها الآخر رفض الاستبداد, والدورة الانتقالية الثانية في الدفاع عن الدولة الوطنية الحديثة ووجهها الآخر رفض الدولة الدينية, أي أن محصلة حراك25 يناير وتمرد30 يونيو هو رفض الشمولية بوجهيها السياسي والديني. وظني أن الاستفتاء الأخير كان استفتاءـ بالأساس/ بالأكثرـ حول الدولة الوطنية الحديثة وفي القلب منها الجمهورية.


وبعد, ها نحن نخوض الدورة الانتقالية الثالثة من عملية التحول الديمقراطي; والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة التأسيس لمصر جديدة تتسم بما يلي: جمهورية عادلة( إذا ما استعرنا هذا التعبير السياسي القديم) بين حكامها ومواطنيها علي كل الأصعدة, سلطة مفتوحة ومنفتحة علي الحركية المجتمعية الجديدة, قدرة علي تجديد مؤسسات الدولة ـ التي بقدر ما استطاعت أن تقاوم محاولة تغيير طبيعة الدولة بقدر ما تبين الحاجة إلي تجديدهاـ بما يناسب التحولات المجتمعية, وبنموذج تنموي مركب يقوم علي اقتصاد المعرفة والمعلومات ويحقق العدل الاجتماعي للمواطنين, وبناء نموذج ديمقراطي قيمي وعملي في كل مكان: في المحليات, والمدارس والجامعات, المصانع, التعاونيات, المؤسسات الدينية.. إلخ. وأخيرا إدراك أن الكتلة الرئيسية من سكان مصر من الشباب(50% من السكان تحت سن الـ25 أي نتحدث عن كتلة تصل إلي45 مليونا) ما يعني ابتكار آليات ومساحات للتواصل والتعبير لهذا الشباب الثائر/الفائر. هذه هي مهام الدورة الانتقالية الراهنة من التحول الديمقراطي. ونواصل بوضع مؤشرات للديمقراطية يمكن القياس عليها.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern