الغرب الحيوي الكبير

يطرح بريجنسكي في كتابه الأخير رؤية استراتيجية‏,‏ ضرورة تأسيس توازن جغرافي سياسي جديد في منظومة العلاقات الدولية‏

. ويضع علي الولايات المتحدة الأمريكية مسئولية رئيسية في إحداث هذا التوازن.. ماذا وكيف؟
بداية, وقبل أن يقدم فكرته المحورية, يستعرض بريجنسكي ما آلت إليه أحوال أمريكا نتيجة تورطها في حرب ممتدة ذات طابع إمبراطوري, منذ سنة1812 وحتي حرب العراق الثانية, راصدا مدة كل حرب بالشهور,

مسجلا مجموع ما يقرب من650 شهرا من الانخراط المباشر في حروب ميدانية. والنتيجة أن تأثرت ولاشك أمريكا بالداخل اقتصاديا واجتماعيا, بالرغم من أن أمريكا لاتزال علي رأس قائمة الدول في الكثير من الأمور الاقتصادية فإنه مقارنة بالتطور المتنامي/المتضاعف الذي يحدث للصين وروسيا والهند واليابان فإن الخطر يصبح مهددا لأمريكا. وإذا ما تهددت أمريكا فإن هذا يعني الفوضي, خاصة مع صعود قوي أخري قد توجد خللا بصعودها في منظومة العلاقات الدولية. ومن ثم لابد من تعافي الولايات المتحدة الأمريكية كي تستطيع أن تؤمن توازنا جغرافيا- سياسيا, يتجاوز الدور الإمبراطوري الذي رسمته إدارات بوش الأب وكلينتون وبوش الابن, عقب الحرب الباردة, والإصرار علي ممارسة مسلك إمبريالي مرفوضة كونيا, وتتناقض مع محاولة تعميم النموذج الديمقراطي الأمريكي باعتباره النموذج الذي يجب أن يتبع.


في هذا السياق يعتبر بريجنسكي المرحلة الحالية حيث أمريكا غير راغبة أو غير قادرة علي الحسم, فإن الصراعات سوف تتنامي, وأن القوي الصاعدة مثل: الصين وروسيا, تحديدا, لن يقدرا علي ضبط الصراعات التي يمكن أن تنشأ. ويصف هذه المناطق بالهشة لأنها معرضة للسقوط في أي وقت(جورجيا, وبيلاروسيا, وكوريا الجنوبية, وتايوان, وأفغانستان, وباكستان, والشرق الأوسط الكبير). لذا فإنه يعتبر هذه المرحلة هي مرحلة كارثية علي العالم حتي عام…2025 ويقدر أن العقد المقبل2015 ـ2025 سيكون حاسما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية في أن تجدد دورها الكوني ليس بمنطق إمبراطوري وإنما من منطلق مسئولية القيادة العالميةـ وذلك لتشكل توازنا جغرافيـا سياسيا جديدا للعالم, يقوم علي ضبط إيقاع التوازن العابر للقارات وبخاصة لقارتي: أوروبا وآسيا, أو أوراسيا.


أوراسيا هي المهمة الملحة لأمريكا, بما تمثل من تحد مرعب لمكانتها الكونية من جهة, وما تؤدي إليه من عدم استقرار جغرافي سياسي عالمي يمتد من: شرق مصر حيث قناة السويس إلي غرب الصين حيث مقاطعة زينجيانج, وجنوب روسيا حيث القوقاز ودول آسيا الوسطي الجديدة( الجمهوريات السوفيتية السابقة) من جهة أخري. وهنا يطرح بريجنسكي بوضوح شديد ما يلي.. بقدر ما سوف ينتقل مركز الثقل العالمي من الغرب إلي الشرق.., ويفسر من أوروبا إلي آسيا وربما من أمريكا إلي الصين, بقدر ما سيتصاعد عدم الاستقرار نظرا لهذا التحول غير المتوقع. فأمريكا أكثر من أي قوة تدخلت بشكل مباشر في سلسلة من الصراعات المناطقية في أوراسيا في الوقت الذي كانت القوي الإقليمية مثل الهند والصين وروسيا بعيدة عن هذه الصراعات…

الخلاصة, إنه بعد انقضاء عشرين سنة علي الحرب الباردة فإن أوراسيا قد أصابها التدهور. فهناك فشل أوروبي وهناك صعود روسي علي التخوم الغربية لأوروبا. وآخر صيني شرقا. ومن أجل استقرار أوراسيا لابد من استحداث استراتيجية التوازن الجديدة والتي يمكن أن نوجزها في عبارة واحدة كما يلي:
الغرب الكبير الحيوي: وهنا يشير بريجنسكي إلي ما جاء في الفصول الأولي من الكتاب حول انحسار الحلم الأمريكي وتراجع الغرب, يمكن معالجته بأن تعمل أمريكا علي تجديد التعاون مع أوروبا. بهذا المعني يصبح الغرب الكبير الحيوي هو قلب/ مركز الاستقرار العالمي. في هذا المقام يتحدث بريجنسكي تفصيلا عن روسيا وتركيا من جانب, وعن الصين والهند من جانب آخر, شارحا كيف يمكن لهذه الدول أن تكون امتدادا للمركز الغربي وطريقا لباقي المناطق الحيوية الأخري, من خلال دراسة عميقة لأداء كل منها التنموي. الغرب الكبير الحيوي العنصر الفاعل فيه أمريكا الجديدة ذات الدور المزدوج: المصالح والداعم للتوازن. هذا هو ما يخلص إليه بريجنسكي من خلال المبدأ الاستراتيجي الكوني الذي يدعو إليه والذي يمكن أن نوجزه في الآتي: تجديد الغرب من خلال سياسات جذابة وعملية تجعله عمليا في المقدمة, وتيسير استقرار الشرق في أطر متسعة من التعاون بتقديم بدائل اقتصادية وسياسية متنوعة مما يقلل من التوترات, ويؤدي إلي استقرار عالمي حقيقي. والعمل المشترك حول القضايا الكونية المختلفة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern