ربما يكون من أهم ما تيقن منه المرء من خلال سنوات الحراك الثلاث الماضية, والتي تداخلت فيها خبرات كثيرة وكثيفة: فكرية وثقافية وحكومية وسياسية وحركية, هو أن’ الفجوة المعرفية’ بيننا وبين الآخرين قد اتسعت كثيرا, كثيرا…
ففي إطار دراستنا لتجارب الآخرين في مجالات عدة مثل: التحول الديمقراطي, كيفية الكتابة الدستورية وفلسفتها أو ما وصفناه بعملية الدسترة, أو عمل المحليات في كثير من بلدان الموجة الرابعة والخامسة من التحول الديمقراطي من جهة, أو اقترابنا من الكثير من النظريات المحدثة والمدارس الفكرية والمفردات والمصطلحات واكتشافنا أننا لا نعرف عن ذلك الجديد أي شيء بل أن مناهجنا العلمية لم تزل’ راكنة’ عند الجيل الأول أو بالكثير الجيل الثاني من المجتهدين في هذا المجال أو ذاك.
وما الاستثناءات في هذا المقام, إلا بسبب جهد فردي وليس تعبيرا عن حالة معرفية شاملة…وأذكر في هذا السياق دعوة وجهت لي(2003) عندما أصدرت كتابي:’ الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة’ والتي اتبعت فيها ما أطلقت عليه التوسع الأمريكي من الداخل إلي الخارج ـ وهو مصطلح جديد طرحناه وفق تمدد جغرافي/ تاريخي مادي, ولما وصلنا للفصل الخاص باليمين الديني وقد كان لنا سبق الكتابة عن هذا التيار ورسم’ البراديم’ النظري وتفاعلاته المجتمعية له منذ وقت مبكر ومساره التاريخي منذ الأربعينيات حتي وصوله لسدة الحكم مع بوش الابن من خلال تحالف مع ما عرفوا بالمحافظين الجدد( وكانت مصدرا أساسيا لعدد من رسائل الدكتوراه)…كانت الدعوة موجهة للحديث عن’ دور الدين و الفلسفة في تشكيل السياسات الخارجية الأمريكية’…واخترت الحديث عن’ الفيلسوف الأمريكي ليو شتراوس( ألماني الاصل) ودوره في عملية التكوين الثقافي للعناصر الرئيسية من مدرسة المحافظين الجدد الأمريكية…وبعد فترة من حديثي, استوقفني أحد أساتذة الفلسفة ـ لا أذكر تحديدا اسمه وأظنه كان رئيسا لأحد أقسام الفلسفة الإقليمية ـ حيث قال يكاد يكون صارخا: يا أستاذ تقصد’ كلود ليفي شتراوس’…في البداية لم أعرف ماذا يجب علي أن افعل؟…هل ألقن هذا الأستاذ الجريء ـ بجهل ـ درسا في المعرفة…ولكن أدبي منعني أن أحرجه لئلا يكون هناك أحد من تلامذته…فاخترت أن اجيب بهدوء بل’ ليو شتراوس…وواصلت المحاضرة…
مثل هذا الموقف لي, جرس إنذار, علي أننا بعيدون جدا عن جديد المعرفة في العالم في شتي المجالات: علم الاجتماع, والفلسفة, والعلوم السياسية,…الخ…ويمكن القول ـ باطمئنان ـ أن الفجوة المعرفية ـ بحسب نبيل علي العالم المصري الكبير المتواري بيننا وبين’ الدنيا الجديدة المتجددة’, قد اتسعت بشكل غير مسبوق: تاريخيا وموضوعيا…ففي علم الاجتماع بشكل عام وعلم الاجتماع الديني بشكل خاص أصبح هناك أربعة أجيال معرفية تلت جيل الكتابات التأسيسية…بالأرقام هناك فرق زمني يصل إلي ما يقرب من مائتي سنة…بيد الفرق الزمني يقابله اجتهادات معرفية مركبة ومعقدة ومتداخلة تقوم بها فرق بحثية متكاملة الاهتمام…فمن المقاربات الفلسفية أو الاقتصادية أو النفسية أو…الخ, للدين من قبل الرواد المؤسسين مثل: ماركس, ودوركايم, وشميدت, ويونج, ودرلووي,…سوف نجد الجيل الرابع يقوم بمقاربات مركبة تتداخل فيها التخصصات والمعارف حول تأثير العولمة علي المجتمعات المحلية والدين وتأثير الدين علي العلاقات الدولية… الخ, وتناول موضوعات دقيقة مثل: الدين والثروة, التنوع الثقافي, الدين والحركات الاجتماعية, الدين وإشكاليات العالم البيئية والعلمية والسياسية, التجدد اللاهوتي في عالم متغير, الدين والحداثة, الدين والثقافة وإشكاليات الهوية والخصوصية,…الخ, يقوم بها علماء جدد من عينة’ جيف هاينز’ و’بيتر بيير’ و’ كازانوفا’, و’رونالد روبرتسون’,…الخ…نستطيع أن ندلل بأكثر من مثل في أكثر من مجال علي المدي الذي طال الفجوة المعرفية.
وعندما بدأت طرح مفهوم’ الحرب الهادئة’, علي مدي المقالات الثلاثة الماضية في الأهرام…سألني أحد الأصدقاء من المتخصصين من أين جئت بهذا المصطلح…فقلت لقد أشرت في بداية المقالات للمؤلف والكتاب الذي يحمل نفس الاسم…وبالمناسبة المؤلف’ نوح فيلدمان’ هو أحد أساتذة القانون الدولي الشباب بهارفارد, كما أنه خدم كمستشار رئيسي للدستور العراقي في…2003 وواقع الأمر أن هذا المصطلح يمثل امتدادا مدروسا لما سبق من استراتيجيات عالمية…ولم تأت صدفة أو لأن أمريكا تريد ان’ تخلع’ من مسؤولياتها بمنطق القراءة الصحفية للكثير مما يحدث…وهو ما لابد أن يتغير أيضا وأن ننهج ما يمكن تسميته القراءة المعرفية… وربما نستفيض مرة في ذلك…
الخلاصة, إن أي تفكير في تقدم وطننا لابد أن ينهج نهجا معرفيا يقوم علي رسم الخريطة المعرفية المعاصرة للأفكار والأشخاص وكيفية التعاطي مع جديد المعرفة…أتمني أن يكون هذا مشروعنا في العام الجديد…ونواصل…