التوافق.. التوافق.. التوافق.. هو إيه حكاية الكلمة دي, هو لازم نبقي كلنا لون واحد؟ سؤال وجهه لي صديقي بحدة, وبفرضية أن التوافق يعني التطابق بين البشر.
بعد أن استوعبت حدة صديقي وسؤاله الذي يبدو منطقيا, في الوقت الذي لم أستطع إخفاء قلقي من أن يسود هذا التفكير الذي يعكس الأمور ويفرض معاني مناقضة لجوهرها. قلت له, من الناحية المعرفية: فإن كلمة التوافق هي الكلمة التي تم الاتفاق عليها للتعبير عن إمكانية الحياة المشتركة بين المختلفين من المواطنين الذين يجمعهم وطن واحد. لاحظ يا صديقي أنني أقول: بين المختلفين من المواطنين وليس المتماثلين أو المتشابهين, أخذا في الاعتبار أن المجتمع الحديث/ الدولة الحديثة تقوم عضويتها علي المواطنة, حيث كل مواطن يتحرك في الفضاء العام بصفته المواطنية ومن ثم يكون الاختلاف حاضرا; والعكس صحيح. فكلما كانت العلاقات المجتمعية وعلاقة الدولة بسكانها تقوم علي العلاقات الأولية القرابية والقبلية والعشائرية, يسود التشابه/والتماثل بين البشر, ولا يعتد بإمكانية الاختلاف. الأكثر إذا برز أي اختلاف فإنه يجب أن يظل محبوسا أو مختفيا أو يتم التعريض به باعتباره خروجا علي ما هو متعارف عليه أو سائد.
وعليه, فالتوافق هو أحد أهم الآليات التي ابتكرتها المجتمعات/الدول الحديثة من أجل: تنظيم الاختلافات بين المواطنين الأحرار الذين لديهم حق الاختيار في واقعهم السياسي والمدني. وتعظيم القدرة علي الحياة المشتركة دون تعسف فئة علي أخري أو جماعة أولية علي غيرها,
إذن, ليس هدف التوافق هو التطابق. والمفارقة اننا نستخدم التوافق بهدف بلوغ التطابق. إنها الحداثة المتخيلة, إذا ما استعرنا تعبيرالمتخيلة من كتاب المجتمعات المتخيلة لبيندكت أندرسن. فالظاهر أننا ندير حوارات مفتوحة ومعمقة حول الديمقراطية. لكن الواقع يشير إلي أنه إذا ما تأملنا هذه الحوارات فاننا سنجدها تدار بمنطق الأسود والأبيض. غرفتان أم غرفة تشريعية واحدة,50% عمال وفلاحين, كوتة أو لا. مبادي الشريعة أم أحكامها25 يناير أم30 يونيو؟ في مثل هذه الأمور لا توجد إجابات مباشرة عن طريقة وضع علامة صواب أو خطأ. إنه نمط من التفكير بدائي وبسيط تديره جماعات مغلقة علي نفسها تقدس ما تؤمن به ولا تستطيع أن تري غيره. يعكس في حقيقة الأمر مدي تطورنا المتعثر في الاقتصاد والثقافة والسياسة…لقد بات المجتمع معقدا وعليه: لم تعد هناك إجابة بسيطة أو تفسير وحيد لفهم الظواهر/ تناول القضايا, وأن الإجابة لابد أن تأخذ السياق المجتمعي والتطور التاريخي والخبرة المقارنة ورؤيتنا لأي مستقبل لمصر نريد.
المفارقة أنه إذا حاول بعضنا أن يجيب إجابة مركبة تعمق التناول للخروج بصيغ مركبة تكون نتاج جدل بين مختلفين, نمارس الابتزاز أو التلويح بالشارع أو استخدام العنف أو استدعاء رموزه وممارسته أو التشكيك في النوايا أو التجريح فإنه بهذا يتحقق التوافق, بينما في الواقع نعمل علي تطبيق التطابق قسرا بالعافية. وهناك كتلة في أثناء هذا الاشتباك تقول:ياعم متعقدهاش وخليك عملي أو دي مثالية, بينما الأمر أكثر تعقيدا من ذلك فأي نتيجة يتم التوصل إليها تعكس هل انحزنا إلي الدولة الدينية أم الحديثة العصرية غير المتخاصمة مع الدين..الخ. ويتحول التوافق إلي نوع من المساومة الفجة بمنطق:فوتلي دي أفوتلك دي. والخلاصة أن ما سبق, يكشف أزمة بنيوية حادة, ترجع لعدة أمور, في ظني, يمكن أن نوجزها في الآتي:
الأمر الأول: سيادة وتفشي منظومة قيم ثقافية تنتمي لما قبل الحداثة: فمن ليس معي هو ضدي. فلا يعود الموضوع قيد البحث خاضعا للفحص طبقا للمنطق والسياق وللتطور المعرفي, بل يكون اختبارا لمدي الولاء والتبعية والقبول بالخضوع للرأي الآخر خاصة إذا كان صاحبه ينتمي لثقافة أو بنية ما قبل حداثية لا تعرف أن أساس الاجتماع البشري الحديث هو الاختلاف. ومن ثم نجد التمترس بالأهل والعشيرة والطائفة لفرض الرأي. وعندئذ لا سبيل بأن يفند أحد الرأي وقد احتمي بما هو مقدس وثابت لدي أصحابه بالرغم من أن القضايا المختلف عليها نسبية.
الأمر الثاني: التشدق الشكلي بالديمقراطية والقبول بالرأي الآخر, ولكن عند المحك العملي لا يري المرء إلا رأيه وأن المخالفين هم إما جهلة أو مأجورون أو لهم مصالح شخصية.. الخ, أو كل ذلك. ويبدو التحيز حاضرا, التحيز الذي هو القاعدة/ الأساس للاستبداد بطبعتيه: السياسية والدينية.
الأمر الثالث: الجهل المعرفي بالدروس المستفادة من التاريخ الوطني أو المقارن. وافتقاد المنهج التحليلي المركب في تناول القضايا والإصرار علي التلامس السطحي معها هو ما أوصلنا إلي ما نحن فيه. لذا يا صديقي التوافق لا يعني التطابق وإنما هو عملية جدلية مبدعة لتأسيس قواعد مرنة لحياة مشتركة بين المختلفين.