جاءني صديقي صائحا ألا تزال متمسكا بضرورة مواكبة ما أطلقت عليه دساتير الموجة الرابعة…قلت له نعم…استطرد صديقي, بدرجة الصياح نفسها التي تحمل قدرا من الشفقة علي الجهد المبذول في هذا المقام
بقوله: بالرغم من أن هناك من القانونيين وأساتذة العلوم السياسية من يتمسكون بالدساتير القصيرة ذات المبادئ البسيطة والمباشرة…
مرة أخري وأتمني أن تكون أخيرة…أقول ان الدساتير قد مرت بأربع موجات علي مدي التاريخ وفق كثير من المصادر المعتبرة. وكل موجة هي ابنة زمانها وسياقها التاريخي. وقد شرحنا ذلك أكثر من مرة, واكدنا أن الدساتير المعاصرة وحتي لا تكون دساتير من ورق, أصبحت لها قواعد فلسفية ومعمارية يجب أن تراعي, وهو ما حاولنا ان نؤكده علي مدي15 مقالا وهو ما وجدت له صدي يتمثل في تداول هذه المقالات علي كثير من المواقع ونشرها علي اكثر من صعيد. في هذا السياق, نواصل دراستنا لدساتير الموجة الرابعة. وكيف يتم التضفير بين المفهوم: حرصا علي تعريف كل فكرة في إطار الفلسفة التي يتم التوافق حولها, وبين بنية الفكرة: أبعادها وملامحها وعلاقاتها بأفكار وملفات أخري, وبين الإطار الضامن لتفعيل نصوص الدستور: الإطار القانوني والإطار التنفيذي علي مستوي الخطة والسياسات والإجراءات… واستمرارا لما قدمناه كنماذج دالة علي ما نقول مثل: الحكم المحلي, والرعاية الاجتماعية, وعلاقات العمل, والمقوم الاقتصادي وهويته وقضاياه وطبيعته,…الخ, نتحدث عن تنمية الدولة, وقد قمنا بدراسته في كل من دساتير: البرازيل والهند وماليزيا…ولظروف المساحة سوف نلقي الضوء علي الدستور البرازيلي.
تحدثنا من قبل عن الباب السابع من الدستور البرازيلي المعنون: النظام الاقتصادي والمالي; وعن الفصل الأول منه الذي يتضمن ـ تفصيلا ـ المبادئ العامة للنشاط الاقتصادي…واليوم نتحدث عن الفصل الثاني والمخصص للحديث عن: سياسة التنمية الحضرية حيث ينص في المادة182 علي ما يلي: ترمي سياسة التنمية الحضرية, إلي تحقيق التنمية المتكاملة للوظائف الاجتماعية للمدينة وكفالة رفاه سكانها.
ويربط الدستور, علي مدي مادة أخري(المادة183) وما مجموعه10 بنود فرعية موزعة علي المادتين, بين سياسة التنمية الحضرية والخطة القادرة علي تحقيقها التي يجب أن تقر محليا في إطار اللامركزية وذلك باعتبارها: الأداة الأساسية لسياسة التنمية والتوسع الحضريين. ويلاحظ علي تأكيد الستور ما يطلق عليه الوظيفة الاجتماعية للأملاك الحضرية من حيث تلبية المتطلبات الأساسية لتنمية المدينة… فالمدينة لابد لها أن تحافظ علي هويتها المدينية كحامل للسمات الحضرية ودليل علي التقدم الحضاري للدول. ويضع كل الضوابط الحاكمة من أجل تحقيق هذه السياسة.
وفي الفصل الثالث المخصص للسياسة الزراعية, وعلي مدي8 مواد وما يقرب من25 بندا فرعيا, يفسر الدستور البرازيلي فلسفة الوظيفة الاجتماعية للأملاك. فالملكية الريفية, مثلا, لابد وأن تبقي تؤدي دورها المادي فلا تتحول مثلا إلي أرض بناء ومن ثم يتغير الدور الاجتماعي للأرض…أو أن الأرض في موقع معين لها أهمية خاصة في مجال الإصلاح الزراعي ومن ثم لابد من الحفاظ علي دورها الاجتماعي/ الانتاجي لمصلحة المواطنين.
ويحدد الدستور أربعة ملامح رئيسية للوظيفة الاجتماعية للملكية وذلك كما يلي:
الأول: الاستخدام الرشيد والمناسب, الثاني:الاستخدام الملائم للموارد الطبيعية المتاحة والحفاظ علي البيئة, الثالث: الامتثال للأحكام التي تنظم علاقات العمل, الرابع: عدم وجود علاقات استغلال بين الملاك والعمالة الزراعية.
ويلزم الدستور بأن توضع خطة التنمية الزراعية في المادة187: س بمشاركة فعلية من جانب قطاع الإنتاج, الذي يضم المنتجين والعمال الريفيين,وكذلك قطاعات التسويق والتخزين والنقل,مع إيلاء اعتبار خاص لما يلي: أولا: الآليات الائتمانية والضريبية( يفرد الدستور الباب السادس للنظام الضريبي علي مدي17 مادة) ثانيا: توافق الأسعار مع تكاليف الإنتاج وضمان التسويق, ثالثا: توفير حوافز للبحوث والتكنولوجيا, رابعا: تقديم المساعدة التقنية للإرشاد الريفي, خامسا: التأمين الزراعي, سادسا: النشاط التعاوني, سابعا: توافر شبكات كهرباء وري ريفية, ثامنا: توافر إسكان للعمال الريفيين. وأخيرا يؤكد الدستور ضرورة أن يشمل التخطيط الزراعي الأنشطة الصناعية القائمة علي الزراعة وتربية القطعان وصيد الأسماك,…. كما لا يفوت الدستور أن يضع الضوابط اللازمة لكيفية تنظيم توزيع الأراضي وملكيتها وشروط بيعها لاحقا كذلك شروط الملكية للأجانب, ولا يخجل النص الدستوري من الحديث عن مصادرة الأراضي وفق إطار قانوني له ما يبرر ذلك بالرغم من أن اقتصاد البرازيل ينتمي للاقتصاد الحر ـ المتحرر من سياسات الليبرالية الجديدة ـ ولكنه لا يغفل ضرورة ضمان العدالة الاجتماعية.. الخلاصة يعكس ما سبق حرص الدساتير المعاصرة علي توفر الرؤية الشاملة التي تأخذ في الاعتبار التعاطي مع الموضوعات من كل الزوايا والأبعاد وعلي أكثر من صعيد…ونواصل…