ما هو الهدف العام لأي دستور؟… يجيبنا المفكر الموسوعي الكبير لويس عوض, في سلسلة مقالات كتبها عام1954 بعنوان دستور الشعب
بقوله: لست أقصد, بالهدف العام للدستور, المبادئ الدستورية العامة كنظام الحكم وكشكل الدولة وكالتشريعات الأساسية وكالضمانات القانونية؟ فهذه جميعا من جوهريات الدستور حقا ولكنها في نهاية الأمر أدوات تحقق جوهرا أعلي منها وتخرجه من عالم الفكرة إلي عالم التنفيذ.
إذن, ماذا تقصد يا دكتور لويس بسؤالك؟ يجيب لويس عوض بما يلي: أقصد جوهر ومبدأ المبادئ في كل دستور, وذلك هو الفكرة الإنسانية التي نريد أن نحققها بالدستور. الدستور هو أس كل تشريع والقاسم المشترك الأعظم في كل القوانين التي تصدر في البلاد, فهو أبو القوانين. وكما أننا نصدر القانون لتحقيق غرض معين فنحن كذلك نضع دستور البلاد لنحقق غرضا معينا.والفرق بين الغرض الذي نتوخاه من وضع الدستور هو الفرق بين الغرض الصغير والغرض الكبير, أو الغرض الجزئي أو الغرض الكلي. هذا الغرض الكلي الذي نريد أن نحققه بالدستور هو ما نعبر عنه بقولنا:فلسفة الدستور, فالدساتير تصنعها الشعوب لتحقق بها فلسفة إنسانية واجتماعية…
هذا ما كتبه لويس عوض منذ60 عاما تقريبا, والذي يمكن أن نقول انه قد باتت الموجة الرابعة من الدساتير تؤكده, أي الفلسفة التي تنطلق منها كل المبادئ الدستورية. بالإضافة إلي ما يمكن أن نطلق عليه سوسيولوجيا الدستور. النص الدستوري ليس نصا ينشأ من فراغ, أو نصا بلاغيا, أو نصا حرفيا يكتبه صناع مهرة, أو نصا يجمع بين الفكرة ونقيضها أو ما وصفناه بالتهجين المضل. لو أخذنا قيمة العدالة الاجتماعية نموذجا. فهي ليست كلمة تدرج في ذيل المبادئ الدستورية, بل مبدأ يتم العمل علي تحقيقه من خلال تحديد معناه بدقة وتأمين وجوده في كامل النص الدستوري, خاصة في كل ما يتعلق بالمقوم الاقتصادي. وللتدليل علي ذلك يمكن أن نشير إلي الدستور البرازيلي أحد دساتير الجيل الرابع. فعلي ماذا نص في هذا المقام؟
في الباب السابع المعنون: النظام الاقتصادي والمالي( ويلاحظ تمييز الدستور بين ما هو اقتصادي وما هو مالي), يأتي الفصل الأول منه تحت عنوان: المبادئ العامة للنشاط الاقتصادي, حيث يحددها في المادة170 كما يلي: المقصود بالنظام الاقتصادي, القائم علي أساس تقدير قيمة الإنسان والاقتصاد الحر, هو أن يكفل لكل شخص حياة كريمة, وفقا لما يمليه العدل الاجتماعي… وفورا يبادر المشرع بالإجابة عن سؤال: كيف يمكن ضمان ذلك؟, فيحدد9 أسس حاكمة تنظم العملية الاقتصادية في البرازيل قبل أية تفاصيل وذلك كما يلي:
أولا: السيادة الوطنية, ثانيا: الملكية الخاصة, ثالثا: الوظيفة الاجتماعية للملكية, رابعا: المنافسة الحرة, خامسا: حماية المستهلك, سادسا: حماية البيئة, سابعا: الحد من الفوارق الإقليمية والاجتماعية, ثامنا: السعي إلي تحقيق العمالة الكاملة, تاسعا: المعاملة التفضيلية للمؤسسات الصغيرة المنظمة بموجب القوانين البرازيلية التي يوجد مقرها الرئيسي وإدارتها في البرازيل.
والقارئ بعناية للأسس الحاكمة السابقة سوف يلحظ كيف أنها تمس أفكارا جوهرية تشكل جوهر الفلسفة الاقتصادية البرازيلية: التي تراعي:المساواة الجهوية والطبقية, وأولوية التعامل مع الشركات الوطنية, والأخذ بسياسات اقتصادية مشروطة بتأمين العمالة الكاملة وحماية المستهلك والبيئة. ولا يفوت المشرع أن يعرج علي الوظيفة الاجتماعية للملكية وهي من القضايا الكبري في القانون والاجتماع السياسي والتي سوف نجدها تتكرر في أكثر من مكان..الخ. ويواصل المشرع في هذا الفصل, وعلي مدي تسع مواد مفصلة علي ما يقرب من45 فقرة رئيسية وفرعية, توصيف النظام الاقتصادي والمالي للبرازيل…ويلي ما سبق مباشرة, ومن خلال الفصل الثاني من الباب الخاص بالنظام الاقتصادي والمالي الحديث عن السياسة الحضرية للدولة, أو سياسات التنمية التي سيتم اتباعها(من خلال مادتين و10 بنود رئيسية وفرعية). وفي الفصل الثالث يتحدث المشرع عن: السياسة الزراعية في ثماني مواد وما يقرب من30 بندا رئيسيا وفرعيا.
وأخيرا يتحدث الدستور عن النظام المالي بشكل عام ويفصله لاحقا في فصول متخصصة…فيذكر النظام الضرائبي الذي يجب أن يتبع..الخ. هكذا تكتب دساتير الجيل الرابع. حيث الاهتمام بفلسفة الدستور وكيفية ضمان تطبيق الأفكار عمليا. وبالمقارنة لن يكون مقبولا قصر الحديث عن الاقتصاد في بند أو أكثر لا يعكس طبيعة اقتصادنا ثم نذيل هذه البنود بكلمة عن العدل الاجتماعي ونشير إلي آليات السوق المنضبطة في زمن لا يمانع فيه الاقتصاد الحر من تدخل الدولة والأخذ بالتخطيط الشامل, كيف؟.. نواصل القراءة في الدستور البرازيلي.