الهوية بين الاحتكار والاختزال

وأنا أواصل الدراسة المقارنة في نصوص الموجة الرابعة من الدساتير‏,‏ جاء صديقي منزعجا ومهموما وقبل أن أوجه له أي سؤال حول سبب الحالة التي يعاني منها‏.‏ صرخ في قائلا ما الذي تعنيه مواد الهوية الذي يكثر الكلام حولها‏.‏

ولماذا يحتكر البعض الحديث عنها والتلويح دوما بأنها خط أحمر. أليس من حق الجميع أن يتفاعلوا في نقاش جاد حولها للخروج بصيغة وطنية مرضية. ومادامت كانت خطا أحمر فلماذا تطرح للحوار أصلا؟ وهل نحتاج أصلا للحديث عن هويتنا…هدأت من روعه قليلا. وبدأت الإجابة علي صديقي. من الناحية الدستورية; تنص كثير من الدساتير علي هوية الدولة…بيد أن صياغة هذه النصوص تأتي في إطار نقاشات حرة تتسم بقاعدة معرفية عميقة, تعصم الحديث عن الهوية من التسييس أو التديين, لذا ميز كثير من المتخصصين في هذا المقام بين الرؤية المعرفية والمصلحة السياسية في مناقشة قضايا الهوية والقومية, والخصوصية..الخ.


من الناحية التاريخية; دأبت كل المجتمعات علي مراجعة هويتها, وبخاصة عقب الأحداث الكبري, أو في لحظات التحول الحاسمة, فعرف الغرب: شخصية بريطانيا لسيريل فوكس, وشخصية فرنسا لمايك كرانج, وهوية فرنسا لفرنان برودل, والهوية والعنف لأمارتيا سن الذي أثار جدلا واسعا في العامين الأخيرين(راجع مراجعتنا له في الأهرام20 يوليو2008)… وفي مصر عرفنا كتابات من النوع الثقيل في هذا المقام مثل:تكوين مصر لمحمد شفيق غربال, ووحدة تاريخ مصر لمحمد العزب موسي, وشخصية مصر لجمال حمدان, والأدب الشعبي لأحمد رشدي صالح.. الخ. أين المشكلة, إذن؟
المشكلة تكمن في أمرين هما: الأول: عندما تتحكم التحيزات السياسية أو الدينية, المحض, في بلورة مسألة الهوية. الثاني: عندما ننقطع عن الزخم المعرفي الذي تراكم عبر عقود حول قضية الهوية. وعليه تكون النتيجة الحتمية أن التحيز السياسي/ الديني سوف يؤدي إلي: إما احتكار الهوية أو اختزالها. وبدلا من أن يتسم الحوار حول الهوية بالجدل المعرفينجده يتحول إلي سجال خلافي. في هذا السياق, أذكر كلاما للراحل أحمد بهاء الدين ـ في إطار الحوار الفكري المهم جدا الذي انطلق ردا علي ما أثاره توفيق الحكيم حول حياد مصر سنة1978, لفت فيه النظر إلي أن حياة الأمم بها ثوابت ومتغيرات, وأن هناك من يخلطون بين الثوابت والمتغيرات فيها, من حيث منهجية التعاطي معها, الثوابت يتصدي لها المفكرون. والمتغيرات تدخل في باب السياسة.. وهذا الخلط يعد داء خطيرا.


بلغة أخري حديث الهوية لابد من التعامل معه بالفكر والحوار استنادا إلي التاريخ والجغرافيا والثقافة والتطور الاجتماعي. أما اشكاليات السياسة اليومية لابد ان تعالج من خلال أسس الدولة الحديثة التي تقوم علي اعمال القانون والمواطنة والقنوات المدنية. أو مرة أخري التمييز بين الرؤية المعرفية والمصلحة السياسية. والاشكالية الحالية هي أن حديث الهوية بات محتكرا باسم الدين إلي الدرجة التي تطابق بين الدين والهويةمن جهة, واختزاله في عنصر منفرد من جهة أخري…والنتيجة التجاور بين المختلفين وربما النفي لبعضهم البعض. ولو عدنا إلي الذهنية التي حكمت الكتابة الدستورية في دستور منتصف الليل هو تقسيم المصريين علي أساس ديني. وبالرغم من أن الواقع المصري المعاش قد قبل بالتنوع الثقافي والديني لأسباب تتعلق بموقع مصر وبعبقريتها المكانية وبقدرتها الاستيعابية علي هضم التنوع الثقافي…فإن النص الدستوري قد استعار حالة عثمانية في التعاطي مع الأفراد باعتبارهم مللا وطوائف لا مواطنين( نتحدث عن ذلك في مقال لاحق مقارنة بتراثنا الدستوري العريق).


مما سبق لابد في طرحنا لمن نحن؟, السؤال الأساس في حديث الهوية, أن نتحرر من التسييس/ التديين, وان ندرك أن الهوية مركب متعدد العناصر. وأن نأخذ في الاعتبار ما يلي: عدم التعامل مع الهوية باعتبارها ساكنة أو ثابتة لا يطرأ عليها اي تغير عبر التاريخ. فالهوية نسق مفتوح يؤثر ويتأثر,يتفاعل,وفي الأصل يتكون ويتبلور ويصقل عبر الزمان. وعليه فان الهوية لا تعبر عن حالة سكونية مستقرة وراسخة بل هي حالة ديناميكية.. وربط الهوية بعنصر وحيد مثل الدين أو العرق, أو ما يعرف بالهوية ذات الارتباط الأحاديsingularaffiliation, التي تفترض ـ باختزالية شديدة وبتضليل قد يكون متعمدا ـ الارتباط المفرد بهوية واحدة, حصرا ـ فالهوية في الواقع تحمل الدين والثقافة واللغة والطبقة.. الخ. ونواصل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern