حاولت في المقالين الأخيرين, أن أشير إلي الجهود التي بذلت ـ سواء علي المستوي المؤسسي أو الفردي ـ في عقب25 يناير, للمساهمة في كتابة دستور وطني للبلاد يكون معبرا عن التوافق الوطني من جهة وعن تطلعات المصريين وملامح مصر الجديدة التي نريدها.
وقبل ذلك أكدنا أن كتابة دستور هو عملية مركبة لابد أن تتناغم فيها المبادئ الدستورية في المحصلة.. كيف؟ سنحاول الإجابة من خلال مجموعة من الملاحظات. الملاحظة الأولي: نميز بين أنواع الدساتير; هناك ثلاثة أنواع من الدساتير. الأول هو دستور ولي الأمر( أو أفندينا) هو الذي يبادر بوضعه الحاكم حيث يضع فيه رغباته وتقوم بصناعته السلطة. والثاني دستور الغلبة حيث تستأثر جماعة ما أو فئة بوضع الدستور ليعبر عن رؤيتها الخاصة لحكم البلاد خارج التوافق الوطني. أما النوع الثالث من الدساتير, فهو دستور الحركة الوطنية وهو الذي يأتي معبرا عن حركة المواطنين وتطلعاتهم. وجل نضالنا أن نصل إلي وضع دستور يعبر عن نضال الحركة الوطنية. وهنا ننتقل إلي ملاحظتنا الثانية.
الملاحظة الثانية: هناك نوعان من النضال الوطني…الأول هو النضال التاريخي للحركة الوطنية المصرية الذي أبدع تراثا دستوريا معتبرا منذ شريف باشا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر…تراث دستوري يقوم علي أمرين هما: الوطنية المصرية, والديمقراطية السياسية/ الاجتماعية…من خلال التأكيد علي ما يلي: التخلص من النفوذ الأجنبي, وتنظيم مالية البلاد لتسديد الديون التي تكبل الاقتصاد المصري, وهذا هو البعد الوطني.
تحطيم الحكم المطلق لصالح حكم نيابي صحيح, والمساواة الاجتماعية بين المصريين; وهذه هي الديمقراطية ببعديها السياسي/المدني و الاجتماعي.
الثاني هو النضال الآني, أو الحلقة الجديدة من السلسلة الطويلة لنضال المصريين. وفي حالتنا الراهنة حراك25 يناير المتمم ب30 يونيو: بشعاراته ورسائله التي وجهها لكل من الشموليتين السياسية والدينية. وفي هذا السياق لابد وأن يأتي النص الدستوري عاكسا للأسس الدستورية التي ترسخت عبر التاريخ. ولمطالب المصريين الراهنة والتي تلخصت في: العدالة الاجتماعية, والكرامة الانسانية, والحريات, مضافا إلي ذلك ما أبدته الحشود المليونية من رفض للتداخل بين الديني والسياسي وضرورة وجود مسافة بينهما إذا ما استخدمنا تعبير الإمام العظيم محمد عبده.
الملاحظة الثالثة: مما سبق تصبح مهمة التضفير بين ما أكتسبه المصريون من مكتسبات دستورية تاريخية وبين مكتسبات راهنة المهمة الأصعب…أخذا في الاعتبار جديد المواثيق والمعاهدات الدولية من جهة وما جاءت به ما وصفته الموجة الرابعة من الدساتير من جهة أخري. فعلي سبيل المثال: من الإيجابي ـ ولاشك ـ أن تكون هناك مبادئ تحرم/ تجرم عمالة الأطفال, ولكن أن يتم هذا بمعزل عن علاقات الإنتاج السائدة والمطلوب تطويرها أو إصلاحها أو تغييرها, أو بمعزل عن العلاقة بين أصحاب العمل والعاملين, كذلك لا يصح التراجع عن كتابة المبدأ الدستوري عن الدرجة أو المستوي الذي كان مكتوبا في وقت من الأوقات…ونذكر هنا المبدأ المتعلق بكفالة الدولة ضمان حرية العقيدة والتي كانت مشروطة بما لا يخل بالنظام العام في دستور1923 ثم كتبت بالمطلق دون شروط في المادة46 الشهيرة في دستور.1971 ثم نجدها في دستور منتصف الليل وقد كتبت هكذا حرية الاعتقاد مصونة دون أدني مسئولية من الدولة وترك تنظيم ذلك كما هو الحال في كثير من الموضوعات للقوانين(المحليات, منظمات المجتمع المدني).
وفي هذا السياق نرجح أن يكون الدستور طويلا كي يتضمن ملامح القوانين في ضوء المبادئ الدستورية المنصوص عليها. ويضمن هذا الأمر أن تأتي القوانين متفقة مع النص الدستوري. فلقد كان دستور1971 في جانبه الاقتصادي ذات ملمح اشتراكي وجاء قانون الانفتاح الاقتصادي في1974 ليتجه بالاقتصاد المصري عكس الاتجاه الذي أراده الدستور. وأظن انه جري العرف في الكثير من الموضوعات أن يكون النص الدستوري منفتحا ويأتي القانون لاحقا مليء بالقيود.
الملاحظة الرابعة: يظن البعض أنه ربما يكون من الأسلم الرجوع إلي نص دستوري بعينه. فالبعض يطرح استعادة دستور1923 والبعض يقترح إحياء دستور.1971 وواقع الحال يعكس ما سبق إهمال السياق المجتمعي المواكب للنص الدستوري ونوع الدستور. فعلي رغم احتفاء البعض بدستور1923 وهو يستحق هذا الاحتفاء بمعايير زمنه, إلي أن بعض الدارسين المدققين يأخذون عليه أنه لم يعن بالشأن الاقتصادي. ومن ثم لا يمكن فصل السياق عن الوثيقة الدستورية. لذا باتت هناك موجات دستورية تواكب اللحظة التاريخية. وعليه لابد من أن يواكب النص الواقع وإلا كما أشرنا من قبل يصبح النص الدستوري نصا ورقيا. ويبقي السؤال كيف نحتاط من النصوص الدستورية الورقية؟..