تقوم الديمقراطية علي أساس الاقتناع بأن هناك إمكانات غير محدودة في الناس العاديين… الحشود التي احتشدت في ميادين مصر وشوارعها وأمام مساكنها.
كلها احتشدت بشكل سلمي مقاومة ورافضة للقيود. قيود الإملاء السياسي, والإقصاء الديني والثقافي, بالإضافة إلي الإخفاق الاقتصادي. حشود تجسد أن المصريين العاديين لديهم قدرات هادرة لإحداث تحولات جذرية, وقادرة علي حفر مسارات كبري.
لقد سئم المصريون القيود بأنواعها: السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية… كما ضاقوا من الممارسات العنفية: سياسية كانت أو دينية. لم تدرك سلطة ما بعد الحراك الشبابي الشعبي الثوري في25 يناير, أن أهم ما أنجزه هذا الحراك هو أن هناك تحركا قاعديا ـ من أسفل ـ للمواطنين; نقل المواطنة من دائرة التبشير والتعليم والتشجيع إلي دائرة الفعل والممارسة والتحريض. وكان من نتائج ذلك إسقاط الحاكم الذي هو فرعون في ثقافتنا التاريخية والسياسية. إذن سقطت نظرية الحاكم الفرعون ثقافيا وسياسيا وتاريخيا…وصعدت في المقابل حركة المواطنين ـ كل المواطنين ـ علي اختلافهم. لذا فعندما أصدرت سلطة ما بعد25 يناير الإعلان الدستوري في21 نوفمبر الماضي توقعنا المشهد الحالي, لأن السلطة قد سارت في طريق مغاير, أو إن شئنا الدقة انحرفت عن شرعية25 يناير.. وهو ما سجلناه كتابة, سواء في مقالاتنا أو في استقالتنا المسببة احتجاجا علي الإعلان الدستوري.
كما أن جملة ما تم من: تمرير لدستور غير توافقي( بعد منتصف الليل), وتحصين غير مسبوق يعد سابقة خطيرة تؤكد عدم الانحياز لمبدأ الفصل بين السلطات, وهو ما يعطي وضعا استثنائيا للمجالس النيابية والجمعية التأسيسية للدستور بصفة خاصة. وعليه ذكرنا أنه سيكون الها عواقب خطيرة وتشكل تحديا حقيقيا يهدد سلامة الوطن ووحدة نسيجه الاجتماعي والثقافي. ومن ثم لا يؤمن تحولا ديمقراطيا حقيقيا ولا يوفر المناخ المطلوب لحضور وطني تام يضمن بناء مصر الجديدة, الديمقراطية, العادلة, بل يفتح بابا علي المجهول. كذلك أشرنا إلي أن التحرش بسلطات الدولة الحديثة: القضائية, والجيش, سوف ايؤثر علي طبيعة الدولة المصرية الحديثة… لذا تعرض التحول الديمقراطي للكثير من الأزمات, إلا أن أهم عنصر لم يعمل حسابه هو تحرك الناس… وأظن ان المشهد الذي وصفته بالانتحاري; ألا وهو استحضار قوي تلوح بالعنف في حضرة الحاكم ضد المختلفين بأنواعهم. كان المشهد لحظة فارقة في وجدان وعقل المصريين…ذلك لأن المحصلة التي أوصلتنا إليها السلطة الجديدة ـبغض النظر عن الفشل الاقتصادي والسياسي والإداري هو أن الوطن ومشروعه بات يواجه مشروع جماعة مغلقة تفرض قيودا وتلوح بالعنف…إذن بات الوطن في مواجهة الجماعة وهو ما أشرنا له مبكرا. لم تلتفت الجماعة لخطورة الأمر… فلا يمكن أن تعادي جماعة( أي جماعة مهما كانت منظمة ولديها قوة معنوية أو مادية) كلا من: القوي السياسية, وعموم المواطنين العاديين علي اختلافهم, وأخيرا سلطات الدولة ومؤسساتها نتاج الدولة الحديثة…لأنه في النهاية من وكيف ستحكم؟.. وهو ما دفعني مرة إلي أن اقول اننا أمام ظاهرة سلطة ضيقة تواجه مجتمعا مفتوحا متطلعا للحرية والتجدد والانطلاق.
احتشد مواطنو هذا الوطن يقاومون القيود التي أتت بها السلطة الجديدة ودفعت بها من خلال ما وصفته بشرعية الإكراه, ما شجع أن تتحرك الحشود المتنوعة علي اختلافها مقاومة لمشروع يقوم علي: تقييد وطن بأكمله وتغيير طبيعة الدولة الحديثة غير المخاصمة للدين.