الرأسمالية الجامحة النفاذ الناعم

استطاعت الرأسمالية الجامحة‏,‏ بفضل السياسات النيوليبرالية أو اقتصاد القلة الثروية عبر الشركات الاحتكارية العابرة للقوميات والجنسيات وللحدود العملاقة أن تتحكم في اقتصاد بحجم معاملات مال مهول بلغ ما يقرب من‏3000‏ تريليون دولار‏

إنها رأسمالية كونية سوبر بحسب ـ روبرت رايش في كتابه سوبر رأسمالية…إلا أن هذه الرأسمالية بدلا من أن تنعكس إيجابا علي البشر انعكست سلبا عليهم…من حيث اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء…كما تأثرت الطبقة الوسطي تأثرا بالغا…ويكفي أن نشير إلي أن الأزمة المالية/ الاقتصادية الأبرز والتي حلت علي الاقتصاد العالمي في2009/2008( بعد125 أزمة مالية علي مدي30 سنة) تقدر خسائرها التي لم تحص بشكل دقيق إلي الآن بما يقرب من4 تريليونات دولار…


والسؤال المشروع والمنطقي الذي يفرض نفسه, لماذا استمرت سياسات الليبرالية الجديدة مادام كان حصادها بائسا. واقع الحال, فلقد أوضحنا أن هذه السياسات قد اتبعت ما يعرف بالسيطرة الصامتة من خلال ثمانية مبادئ ضالة روجت لها عبر إعلام الكتروني كوني من جهة…ومن خلال عدد من الآليات نفذت من خلالها بنعومة إلي قلب وعقل البشر في بلدان العالم المختلفة…كيف تم هذا النفاذ الناعم؟…
الآلية الأولي;أعادت الليبرالية الجديدة تشكيل السياسات الاجتماعية بما يخدم قوي السوق…حيث تمت إعادة هيكلة البرامج الاجتماعية وفقا لمقتضيات السوق لا بوصفها حقوقا وجزءا من السياسات الاجتماعية للدولة وإنما بوصفها سلعا لابد من دفع تكلفتها, ومن لا يستطيع ينتظر النشاطات الخيرية لتوفيرها له…وأن نزع الطابع الاجتماعي…والتسليع التام للحياة الإنسانية,قد أدي إلي خلل في الوضع العام للمواطنية بدرجة أو أخري, وبدا المشهد الختامي وكأن دولة الرفاهية قد أصابها نمو غير متوازن أدي بالأخير إلي رفاهية قلة علي حساب الأكثرية… فاللامساواة والتفاوتات الحادة تفشت علي المستوي الاقتصادي بين الأثرياء والفقراء. كما امتدت اللامساواة لتشمل العلاقة بين الأجيال, والفئات المهمشة, وبين المدينة والريف,…الخ.


الآلية الثانية;هو التحول العميق الذي طال نظام تعليم الاقتصاد, وعليه كان التكاثر المبالغ فيه في تأسيس معاهد تدريس التجارة وإدارة الأعمال. وكان الهدف من ذلك تخريج كوادر مؤمنة بالسياسات الليبرالية الجديدة تعمل علي التبشير بها وتكون هي الترسانة البيروقراطية لشركات زمن العولمة. وواكب هذا التوسع تغيير في محتوي ومضمون منهج الاقتصاد السياسي. حيث تراجع تدريس ليس مناهج الاقتصاد التي تميل إلي اقتصاد المساواة ودور الدولة وعمليات الانتاج وآثارها في الواقع الاجتماعي والعلاقة بين الاقتصاد والسياسة وأثر ذلك علي موازين القوة المجتمعية وتحولاتها, بل إلي اقتصاد كينز الذي كان يحرص علي دور للدولة في ضبط الاقتصاد الرأسمالي…ومن المعروف أن المدرسة الكينزية سيطرت علي تدريس هذا التخصص حتي أواخر الستينيات. وهكذا خضع تعليم الاقتصاد إلي متطلبات اقتصاد السوق…


الآلية الثالثة; وهي آلية يرصدها جورج قرم في كتابه: حكم العالم الجديد, تتعلق بكيفية مساهمة جائزة نوبل في الترويج للاقتصاد العولمي الجديد من خلال اختيارها للفائزين, بالأفضلية,من بين علماء الاقتصاد القياسي أو علماء الاقتصاد الكمي, الذين يجيدون استخدام الرياضيات, لأن اللجنة علي ما يبدو اعتبرت أن الاقتصاد المترجم إلي نماذج رياضية أصبح بإمكانه بعد اليوم الارتقاء إلي مرتبة العلوم الدقيقة. وكان هذا الاعتقاد الساذج ـ بحسب قرم ـ سبب الانحرافات الهائلة التي اعتورت المعرفة الاقتصادية. فبعد أن كان الاقتصاد السياسي يعتمد تقليديا علي رصد الحقائق التاريخية وتطور نظم الانتاج,تحول إلي أن يكون علم اقتصاد يعتمد حصرا علي نمذجة مجردة لسلوكيات نظرية لا علاقة لها بتعقيد واقع الهياكل الاقتصادية والاجتماعيةوواقع النظم السياسية والبنية الاجتماعية وعلاقة الاقتصاد بالتطورات الاجتماعية وبظواهرها…الخ. فبات الاقتصاد معزولا عن الواقع…فلم يعد يعني الاقتصاد بأسباب الفقر أو الجوع أو الآثار الاجتماعية للعملية الانتاجية والآثار الجانبية لبعض الصناعات…


المهم هو ضبط التضخم بألاعيب تقنية مالية لدفع الناس للاستهلاك, فقط الاستهلاك…حيث أوجدت العولمة حالة من التطلعات الشرهة لدي البشر كي يهرولوا نحوها بقيمها الاستهلاكية…فنشأت علاقة بين البشر وهذه الرأسمالية السوبر أقرب إلي العلاقة التي رسمت في شيطان فاوست…حيث أدارت السوبر الرأسمالية نوعا من المساومة الفاوستيةFaustianBargain مع الأفراد للتنازل عن مواطنيتهم مقابل الاستجابة لرغباتهم كمستهلكين…وغض البصر عن فهم الواقع وتفسير ظواهره والوعي بتداعيات الرأسمالية الجامحة ولماذا يزداد الفقراء فقرا والأغنياء غني…
إذن, نفذت الرأسمالية الجامحة بنعومة من خلال تغيير نظام تعليم الاقتصاد, وعدم طرح الأسئلة الخاصة بالمسألة الاجتماعية والسياسية في ضوء الاقتصاد المطبق, وتطبيق سياسات اجتماعية ضد مصالح المواطنين/ المستهلكين…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern