الرأسمالية الجامحة والرخاء المتعثر

استطاعت الليبرالية الجديدة أن تطلق ما يمكن تسميته الرأسمالية الجامحة‏…‏رأسمالية منفلتة بلا ضوابط تتحرك وفق رغبات شركات احتكارية ضخمة تملكها أقلية

وعلي مدي ثلاثة عقود من1979 إلي2009 تمت لها السيطرة التي وصفت بالصامتة…وبالرغم من حدوث أكبر عدد من الأزمات الاقتصادية خلال هذه الفترة(125 أزمة مالية كبيرة بحسب ما أشرنا في مقالنا السابق), إلا أنها استطاعت وفق ثمانيةمبادئ ضالة( راجع مقالنا قبل السابق) أن تنفذ إلي دولنا وتوجد أحلاما بأن الرخاء قادم,قادم…


فلقد ركزت الليبرالية الجديدة مبادئها الثمانية الضالة في عنوان عريض مفاده: أن غني الأغنياء سيصفي تلقائيا وتدريجيا ظاهرة الفقر لأن الغني المتزايد يعني تزايد الاستثمار وإيجاد فرص عمل باستمرار…وعليه تنحصر البطالة من جهة, أما غير القادرين علي العمل من المرضي والكسالي والمعوقين فيمكن تلبية احتياجاتهم بالأنشطة الخيرية, أي ما يتبرع به الأغنياء…وهو ما عرف بتأثير التساقط. وواقع الحال إن ما بشرت به الليبرالية الجديدة لم يحدث… لكن ما حدث هو العكس تماما…حيث إهدار المساواة كان النتاج الكبير والحصاد البائس لهذه المرحلة…
وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلي ما سجله المعهد البحثي للأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية في تقريره التاريخي المعنون: حالات من الفوضي: الآثار الاجتماعية للعولمة,( والذي يلخص كثيرا مما جاء في العديد من الدراسات النقدية لسياسات الليبرالية الجديدة) حيث يذكر نصا:.. فالإجراءات الكاسحة لجعل السوق ليبرالية الملمح,والاقتطاعات الكبيرة في الإنفاق الحكومي علي التأمينات الاجتماعية مثلا,قد تبدو مبررة لتحقيق الفعالية الاقتصادية علي المدي القصير.بيد أنها إذا ما أدت إلي تفاقم البطالة, وتعمق الفقر,فإنها سوف تنقلب إلي إجراءات مكلفة للغاية, لا في مجال إيجاد الأسي والعسر للفرد فحسب, بل أيضا من جراء أثرها غير المباشر علي قضايا الصحة, والمخدرات, والجريمة, وتشغيل الأطفال والدعارة, ولن تستطيع السلطات المسئولة إغفال الصلة بين البؤس وعدم الأمان من جهة,والصراعات الاجتماعية وتزايد الحركات المتطرفة من جهة أخري…


كما يشير التقرير إلي أن العلاقة وثيقة بين نمط الاقتصاد الذي يتم تبنيه وبين المجتمع الذي يتم تشكله,فعدم إدراك تداخل تلك المسائل واعتمادها وارتباطها ببعضها البعض ـ كان أحد العوامل التي أسهمت بشكل رئيس في إخفاق السياسات الرسمية ومنعها من تحقيق تقدم كبير في محاولاتها معالجة المشكلات الاجتماعية. وإنه لكثيرا ما يفترض أن تحرير قوي السوق, وتوفير الحوافز للمغامرة الفردية كافية لحل المشكلات الاجتماعية عن طريق تحسين الكفاءة والتنمية. ومع أن كلتا السمتين ضروريتان لتحسن الأداء الاقتصادي فإنه ليس بمقدورهما أن تكونا بديلا يعوض عن اتباع سياسة متماسكة وفعالة…


فالنتيجة التي أشار إليها التقرير مبكرا نوجزها فيما يلي:بدا في برامج التصحيح التي وضعها صندوق النقد والبنك الدوليان أن للمؤسستين تصورا لبلد مثالي بالكلية… وفي معظم هذه الحالات كان التصحيح يتطلب انتهاج سياسات ضد التضخم, وخفض خدمات الرفاه العام… مما أوجد صعوبة وعسرا للفقراء. لقد افترض المدافعون عن التصحيح أن هذه الانتكاسات ستكون مؤقتة ـ وأن الكلفة الاجتماعية لفترة قصيرة يمكن تعويضها بمكاسب اقتصادية طويلة الأجل. وكان ما لم يأخذوه في الحسبان أن بمقدور الضرر الاجتماعي اللاحق في تلك الحال إحباط الأهداف الاقتصادية المنشودة, إذ كان أبرز أثر لذلك هو الاضطراب الاجتماعي… كنتيجة لارتفاع أسعار الغذاء وأجور النقل…, وما أن ووجه الناس بالفقر, والبطالة, وتدني التوقعات ـ عمد الكثير منهم إلي نشدان السلوان في البدائل التقليدية ـ من قارئي الحظ إلي رعاة الطائفة الدينية. كذلك حصل انشطار مجتمعي حاد في مجتمعات بلدان العالم الثالث, وإلي درجة كبيرة:فقلة منهم أفادوا من فرص السوق الجديدة, أما جمهور الفقراء فقد ازدادوا فقرا.وعدم المساواة هذا جعل من العسير فعلا إيجاد مجتمع حسن التكامل يكون أرضية لتنمية إنسانية في المستقبل…


الخلاصة, أن عائد النمو الاقتصادي ذهب لمن هم في أقصي القمة, وهم قلة قليلة… وأن نتائج الأزمات الاقتصادية التي جرت بفعل المغامرات المالية والمضاربات والممارسات الاحتكارية دفع ثمنها الفقراء أو الأغلبية من البشر…مما زاد من حدة عدم الاستقرار الاجتماعي…
ولم يأت الرخاء…والمفارقة أن هناك في دولنا من لم يزل يبشر بهذه السياسات ويروج لرخاء منتظر… ويبقي السؤال كيف استطاعت السياسات الاقتصادية للرأسمالية الجامحة أن تستمر لعقود…لم يكن لها أن تستمر إلا بما يمكن أن نطلق عليه: النفاذ الناعم, وهو ما نلقي عليه الضوء في مقالنا القادم…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern