عبقرية مصرية تزداد قيمة برغم الغياب

البشر نوعان‏.‏ نوع يعيش ويغيب ولا يتذكره أحد مهما طالت حياته لأنه بلا انجاز‏.‏لم يترك شيئا له قيمة علي المستويين المادي أو المعنوي‏.‏أما النوع الآخر‏,‏ فهم أصحاب الانجازات الذين تركوا بصمة لا تنسي تتذكرها الأجيال من بعده مهما طال الغياب‏…‏في هذا السياق نتحدث عن جمال حمدان في ذكري رحيله العشرين‏.‏

جمال حمدان, هو أحد عقول مصر الكبيرة. صاحب موسوعة شخصية مصر(4مجلدات من القطع الكبير).عاش ناسكا ينجز العمل تلو الآخر في هدوء وفي أجواء بسيطة. أعمال تنتمي إلي الصناعة الثقيلة. أعمال مرجعية وتأصيلية تناولت شخصية مصر من كل جوانبها: تعامل حمدان مع مصر باعتبارها كائنا حيا له شخصية. تبلورت هذه الشخصية عبر العصور من خلال: الموقع والموضع; والتفاعل بينهما: ائتلافا أو اختلافا…الموقع ويقصد به هو السمات التي تتبلور نتيجة توزيعات الأرض والناس والانتاج علي مدي العصور…اما الموضع فيقصد به البيئة الطبيعية بخصائصها وحجمها ومواردها في ذاتها, أي البيئة النهرية الفيضية بطبيعتها الخاصة وجسم الوادي بشكله وتركيبه. بهذين العنصرين الجوهريين والعلاقة المتغيرة بينهما نفسر شخصية مصرنا. فهما بحسب حمدان: يختلفان حين نجد أن حجم الموضع كان دائما لا يتكافأ مع خطورة الموقع الحاسم علي ناصية العالم,وحين نجد الأول ينتظم قدرا ما عزلة, والثاني يفرض فيضا من الاحتكاك.وهما يأتلفان في الأثر حين يدعوان إلي الوحدة السياسية والمركزية العنيفة,ومن حيث إن زمامهما ليس محليا تماما وإنما يرتبط بعوامل خارجية بعيدة.وبين هذا الشد والجذب تخرج شخصية مصر الكامنة كفلتة جغرافية نادرة.


المحصلة أن مصر:هيفرعونية بالجد,وعربية بالأب, ثم إنها بجسمها النهري قوة بر,ولكنها بسواحلها قوة بحر,وتضع بذلك قدما في الأرض وقدما في النيل.وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقا أقل من قوي,ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسا أكثر من ضخم. وهي بموقعها علي خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول, ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط,كما تمد يدا نحو الشمال وأخري نحو الجنوب.وتوشك بعد أن تكون مركزا مشتركا لثلاث دوائر مختلفة بحيث صارت مجمعا لعوالم شتي,فهي قلب العالم العربي,وواسطة العالم الإسلامي,وحجر الزاوية في العالم الإفريقي.


ولعل في هذه الموهبة الطبيعية ـ بحسب حمدان ـ يكمن: سر بقائها وحيويتها علي العصور ورغمها. أن مصر جغرافيا وتاريخيا تطبيق عملي لمعادلة هيجل: تجمع بين التقرير والنقيض في تركيب متزن أصيل يتجلي في: التجانس والوحدة…فنراه يؤكد أن كل مكون جديد وفد لم يزح ما قبله… فالموجة العربية الإسلامية لم تزح ـ بتعبيره ـ الأساس القبطي إلي جيب الجنوب المغلق في الصعيد, وذلك كما حدث مثلا للفرشات الأساسية في الشام أو المغرب حيث التجأت إلي المعاقل الجبلية والمرتفعات….


ويصرف حمدان وقتا وجهدا لرصد عناصر شخصية مصر الاقتصادية: الزراعية, والصناعية والتعدينية فيبدأ برسم خريطة معرفية تفصيلية لهذه العناصر. ويستفيض في كل بعد من حيث مساره وتطوره التاريخي, وتوثيق تفاصيل مكونات البني الزراعية والصناعية والتعدينية من حيث تركيبها وتوزيعها ومشكلاتها. ثم يضع ما يمكن أن نصفه باستراتيجية ملائمة لمصر فيما يتعلق بشخصيتها الاقتصادية. استراتيجية تتسم بالتكاملية,.ومن أهم ما عالجه جمال حمدان هو دراسته المقارنة بين الاقتصاد الثوري بتعبيره ـ لثورة يوليو, والاقتصاد النفطي إن جاز التعبير. الأولي حيث شهدت مصر الانطلاق والثانية حيث وقعت مصر في الانزلاق, وأثر كل مرحلة علي استراتيجيات مصر السياسية ودورها الإقليمي والدولي, وعلي التركيبة الطبقية المصرية, فلقد انقلب كيان مصر رأسا علي عقب وحتي النخاع, من الخارج ومن الداخل…أفقيا ورأسيا, خارجيا… إذ قلب مكانة مصر في العالم العربي من الصدارة والعروبة والصراع إلي الصلح والعزلة والعراء, وداخليا حيث قلب جزئيا نظام الطبقات وترتيبها الاجتماعي…الخ… أتمني أن يطبع حمدان في طبعات شعبية للمصريين وأن تكون هناك كتابات تبسيطية شارحة مزودة بالرسومات والخرائط التوضيحية مثل التي حاولها تلميذه عمر الفاروق تكون متداولة علي أوسع نطاق حيث سيكتشف المصريون عبقرية مصرية فذة حاضرة برؤاها الاستراتيجية حول مصر التي عشقها ومن أجلها زهد كل شيء.. ونتمني في أربعينية أكتوبر أن نتحدث عن كتابيه6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية واستراتيجية التحرير…رحم الله جمال حمدان.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern