مصر المركب الحضاري

من وقت إلي آخر‏,‏ يظهر إلي سطح النقاش حديث‏’‏ الهوية‏’‏ أو‏’‏ الخصوصية الثقافية‏’;…‏ويؤدي سوء اختيار التناول أو المقاربة إلي استخلاص نتائج غير دقيقة أو متحيزة أو متأثرة بالصراعات السياسية وتجاذباتها‏,‏

 الأمر الذي يؤثر علي’ صوابية’ هذه النتائج بدرجة أو أخري, كما لا يعصمها من التوظيف السياسي و الإهمال المتعمد و الانتقاء…ويصبح التناول غير الصائب وقودا فكريا يشعل الكثير من التوترات…فمن يري أن مصر تتكون من عنصر حضاري واحد سوف ينعكس هذا علي أرض الواقع في مدي اعترافه بالتنوع…والعكس صحيح من يري أن مصر مركب حضاري متعدد العناصر سوف يعتبر هذا غني لابد من الحفاظ عليه وتحصينه…في هذا السياق نستعيد أهم الكتابات المعتبرة التي تناولت مصر كمركب حضاري…


البداية مع محمد شفيق غربال وكتابه’ تكوين مصر’, حيث يقول:’ خصوصية مصر الثقافية هي حصيلة التفاعل بين’ الاستمرارية و التغيير’, ويطبق هذا المنهج علي العلاقة بين:
مصر والعهد القديم,مصر والهلينية,مصر والمسيحية,مصر و الإسلام,مصر و الغرب.
إنها عبقرية مصر الحقيقية, حيث القدرة علي استيعاب الجديد و التفاعل معه من خلال النواة الأساسية للثقافة المصرية و التي تحمل الكثير من المقومات الحضارية التي ترتبط في المقام الأول بخصوصية مصر التي هي’ هبة المصريين’. ولذا فليس غريبا أن يتم تشبيه الشعب المصري باستمرارية النيل,’ فكما أن النيل قديم يشق المجري نفسه من آلاف السنين, إلا أن مياهه جارية و متجددة, كذلك مصر عريقة قائمة بلا انقطاع, والحياة فيها مستمرة ومتجددة’, بفضل:’النهر, التجانس العرقي, والتماسك القاعدي بين المحكومين, و الجغرافيا’.وفي هذا المقام يلفت محمد العزب موسي النظر في مرجعه المهم’ وحدة تاريخ مصر’, إلي أن مصر والإنسان المصري هما:’ حاصل ضرب لا حاصل جمع مختلف الحضارات و الثقافات و الأديان.’
ويقول أحمد رشدي صالح في مرجعه العمدة’ الأدب الشعبي’:’ قد يحلو للبعض أن يقولوا إن رجل الشارع المصري عبارة عن طبقات من مدنيات تتركب بعضها فوق بعض, فهو مصري في ظاهره, فإذا رفعت تلك الطبقة ألفيته قبطيا أو إفريقيا. هذا الرأي مؤداه أنه يستطيع الرجوع أو الانتكاس إلي حيث كان المصري عربيا أو قبطيا أو فرعونيا. إن الشخصية المصرية شأنها شأن أي شخصية قومية أخري قد أصبحت اليوم مزيجا مركبا تركيبا’ جدليا وتاريخيا’, لا تستطيع قوة أن تسحق عناصر منها أو تسلخ بعضها.’


مما سبق نجد أن’ الوحدة الحضارية’ التي ميزت مصر و التي هي المقابل في تصورنا’ للمصرية’ هي التي استطاعت أن تهضم التنوع و تتمثله وتعيد إنتاجه مصريا دون الإخلال بجوهره, وهكذا كانت الاستمرارية والتغير. ولا تتعطل هذه الديناميكية إلا إذا تعطلت المصرية التي تعني لدينا المركب الحضاري متعدد العناصر, متجاوزين المعني’ الشوفيني’ الضيق.
وتعطل المصرية هو في الواقع تعطل للإطار الجامع للعناصر الذي تحدث عنه أنور عبد الملك. وعليه فالخصوصية تكون ديناميكية و ليست ساكنة متي فعلت المصرية( التي هي حصيلة التفاعل مع الواقع.)
هذه النكهة المصرية هي التي ساعدت علي توحد المصريين بالرغم من تنوعهم الديني والثقافي والحضاري…فالاختلاف لم يمنع توحدهم في مواجهة المستعمر والمحتل والحاكم الوافد…حتي لو تماثل الوافد دينيا أو مذهبيا مع المصريين…راجع موقف المصريين من الدولة الرومانية قبل اعتمادها المسيحية دينا للإمبراطورية وبعدها…كذلك موقف المصريين( مسلمين ومسيحيين) من العثمانيين مثلا بالرغم من التماثل المذهبي بينهم وبين المصريين من المسلمين وهو ما لم يمنع أن يدفعوا الخراج بشكل تعسفي مثلهم مثل المسيحيين الذين كانوا يدفعون الجزية… لقد وحدت المصرية: بمعناها التعددي, بين المصريين…وكانت عنصرا للاندماج وللتكامل بينهم وخاصة في أوقات التقدم والنهوض…كما أوجدت ما أطلق عليه’ المجال الحيوي الجامع’ للحياة المشتركة وخاصة في الأوقات التي وجدوا ما يشغلهم معا أو معارك وطنية تجمعهم معا: مواجهة الاستعمار, تحقيق الاستقلال الوطني, الشراكة في تنمية البلاد,…الخ.


إنه الفضاء المشترك الذي يتحرك من خلاله الجميع أو المصرية كما أشرنا من قبل, لذا فليس من الطبيعي أن يكون كل مكون من مكونات الوطن المصري مجاله الخاص لأن هذا يعني نفي الآخر أو عدم الاعتراف به ـ لسبب أو لآخر: سياسي أو لانقطاع عن فهم التاريخ…الخ, وهو ما يعد نقيضا للحالة المصرية التي عرفت بقدرتها علي الاستمرارية و التغير و عرفت بالوحدة و التنوع: مصر المركب الحضاري…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern