في الفترة من1919 إلي1969 لم تعرف مصر سوي حادثتين مما يعرف بحوادث النزاع الديني…الحادثتان هما: حرق كنيسة الزقازيق, والأخري حرق كنيسة السويس.
وكانتا في العامين اللذين سبقا قيام ثورة1952, وبدراسة السياق الذي تم فيه حرق الكنيستين. سوف يدرك المرء فورا أن الأسباب التي أدت إلي ذلك كانت أسبابا سياسية. من جانب آخر رصدنا في الفترة من1970 إلي يومنا هذا أكثر من200 واقعة نزاع ديني. واللقطة التي يجب إبرازها هي أنه علي مدي خمسين عاما لم نرصد سوي حادثتين وفي المقابل نجد أنه في الأربعين سنة التالية/ الأخيرة حدثت200 حادثة. والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه علي أنفسنا لماذا يكاد النزاع الديني يكون غير موجود؟ ولماذا يحدث بوتيرة متصاعدة وبأشكال متنوعة في فترة زمنية أخري؟ ومتي؟
الإجابة أظنها مركبة. حيث تفتح مساحات نقاشية متعددة المستويات…وتدعونا اللحظة التاريخية ـ مع تعقد السياق المجتمعي وتداخل المصالح وتشابكها وتعدد اللاعبين الفاعلين(داخليا وخارجيا) في تفجير/ تطويق الشأن الديني في مصر لسبب ولآخر ـ إلي الاقتراب من مساحات النقاش كل علي حدة وإعادة ربطها ببعض…
المساحة الأولي للنقاش تتعلق بالواقعة مباشرة. نحن أمام مشهد لا تذكر الذاكرة الوطنية أنها رأته. ألا وهو الهجوم غير المسبوق علي الكاتدرائية التي تمثل رمزا ليس للمصريين المسيحيين وإنما المسلمون أيضا. فالكنيسة لم تتعرض في ذروة الصدام بينها وبين رأس الدولة مطلع الثمانينيات إلي أي هجوم ميداني مشابه. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذه المساحة ما الرسالة المطلوب إرسالها من هذا الهجوم؟ هل المطلوب تخويف الأقباط للعودة مرة أخري للانكفاء داخل الكنيسة؟ قطع الطريق علي الحيوية السياسية التي رأيناها بعد25 يناير من انخراط الكثيرين من المصريين من ضمنهم الأقباط في الحركة السياسية والمدنية كل علي طريقته؟ تضييق مساحات الحركة أمام القيادة الكنسية الجديدة التي حاولت ان ترسل رسائل بأنها تود وضع قواعد جديدة للتفاعل/ التواصل المجتمعي يواكب جديد مصر بعد25 يناير؟ حيث الكنيسة تصلي من أجل مصر والوطن وأنها ليست طرفا في المعادلة السياسية وإنما شريك في الصيغة الوطنية العريضة. فكل من الكنيسة المصرية( أقدم كيان وطني مؤسسي تشكل في مصر ممتد/ مستمر إلي يومنا هذا ـ منذ العام الأول للميلاد) ومشيخة الأزهر يعدان ـ تاريخيا ـ رأس حربة في مواجهة الحاكم الوافد والمستعمر.
المساحة الثانية للنقاش, تتعلق باستمرارية وقائع النزاع الديني منذ واقعة أخميم1970 إلي الخصوص.2013 ومرور هذه المسيرة بأربع مراحل: أولا المرحلة العنفية1970, وثانيا مرحلة الاحتقان المجتمعي, حيث وقائع ذات طابع مجتمعي يتصادف أن أحد طرفيها مسلم والآخر مسيحي تتحول إلي نزاع ديني…وثالثا مرحلة السجال الديني حيث التجريح في العقائد عبر التقنيات الالكترونية والفضائيات بداية من2004, وأخيرا ما أطلقت عليه التناحر القاعدي بين المصريين بصورة جماعية( علي مستوي الناس العاديين), والذي انطلق مع واقعة العياط في…2007 وهنا السؤال لماذا الاستمرارية؟ ولماذا لا تتوافر الإرادة السياسية التي تمكن من وضع حلول لظاهرة مزمنة مدمرة في آن واحد؟ وكيف يستقيم أن يحدث ما كنا نشكو منه قبل25 يناير؟…من حيث: البطء في التعاطي مع الوقائع, وضياع الحقوق, وعدم عقوبة المعتدين, وترك الملفات مفتوحة فيما يخص هموم الأقباط سواء: ذات الطابع الديني المباشر مثل بناء الكنائس, أو المدني والتي تتعلق بتهديدات تمارس ضد المسيحيين في حياتهم اليومية…إلخ…وألا تكفي أربعة عقود من تديين المجتمع/ إضفاء المقدس علي المجال العام(تعبيران استخدمتهما منذ وقت مبكر لتوصيف الواقع…راجع دراستنا المبكرة هموم الشباب القبطي مجلة القاهرة1992, وكتابنا الحناية والعقابـ2000).
المساحة الثالثة للنقاش, تتعلق بمنهج الرؤية الذي نري به الأقباط. فهناك من يري الأقباط جماعة دينية مغلقة. ومن ثم يعاملون كأهل ذمة أو في أحسن الأحوال لهم الأمان( الملة)…وهناك من يري الأقباط جماعة سياسية(أقلية سياسية)… وهناك من يدرك أن الأقباط مواطنون ينخرطون في الجسم الاجتماعي كل بحسب طبقته ومهنته يربطهم الانتماء الديني من جهة والوطني لمصر من جهة أخري ويفترقون طبقيا وسياسيا..
الخلاصة أن مواجهة النزاع الديني في مصر يبدأ من التدقيق في استخدام المصطلح, حيث الفتنة الطائفية, لا يعبر عن الواقع لأنه مستورد من الحالة الشامية. ومرورا بإدراك ضرورة ربط المساحات النقاشية الثلاث التي طرحناها, وأخيرا محاولة الإجابة عن السؤال المحوري الذي طرحناه في بداية المقال عن أسباب تراجع وظهور النزاع الديني في مصر…ما يعني دراسة: تاريخ النزاع الديني وما أطلقت عليه جغرافيا النزاع الديني, وأخيرا ماهية التدخلات المطلوبة وفق العلم و المؤسسية…نواصل في مقالنا القادم.