أستاذ الأجيال

‏’‏ إن من يطلق رصاصة علي التاريخ ـ بالقص أو التوظيف أو الإهمال أو بإدارة الظهر أو بالإنكار ـ‏…‏الخ‏…,‏ يكون قد أطلق صاروخا علي المستقبل‏…’‏

من العبارات التي لا أنساها علي الإطلاق وتعني ببساطة أن الوطن الذي يعطي ظهره لذاكرته الوطنية بإنجازاتها وبناتها هو وطن بلا مستقبل. وفي هذا المقام أذكر كيف تحتفي الأوطان المتقدمة بذاكرتها الوطنية. فلقد كنت منذ سنوات أحضر بعض الندوات في أوروبا,

وشاهدت كيف تحتفل هولندا بمرور400 عام علي ميلاد الفنان التشكيلي رامبرانت(1606 ـ1669), صاحب الأعمال الخالدة الكلاسيكية: الحارس الليلي, وجولة في الليل, ولوحة التشريح…كذلك كيف احتفلت أوروبا بالذكري250 ـ آنذاك ـ لميلاد عبقري الموسيقي موزارت(1756 ـ1791) صاحب41 سيمفونية(منها جوبيتر والناي السحري) وعشرات المقطوعات النوعية المتعددة وأوبرا زواج فيجارو…الخ…


لقد كانت الاحتفالات في كل مكان بداية من البوسترات المتنوعة منذ الدخول إلي المطار والتي تجدها في كل مكان وكأنها تتعقبك…والندوات والمعارض ورحلات المدارس والمسابقات علي كل المستويات والبرامج التليفزيونية والأفلام الوثائقية وتوفير الأعمال بأسعار شعبية…والنقاشات المتنوعة التي كانت تحتمل الخلاف حول إبداعات المبدع ولكنها كانت تتفق علي المبدع الإنسان كقيمة أضافت ليس, للوطن, وإنما للتراث الإنساني كله…لقد كانت احتفالية وطنية بحق…بل وأكثر في حالة موزارت حيث كانت أوروبية الطابع…وتهدف هذه الاحتفاليات إلي:


التعلم من دروس الماضي والاستفادة منها لصناعة مستقبل أفضل, وجعل التذكر حالة جمعية وطنية في الحاضر والاحتفاء بالحدث وبالإبداع/ الانجاز وبالشخص,
وأظن أنه لا ينبغي في غمرة تعقيدات العملية السياسية التي تمر بها البلاد أن ننسي تذكرها لأن في التذكر الكثير من الفوائد. خاصة أننا في حقبة زمنية حلت فيها مناسبات مئوية عدة( مثل: في1907 تم تأسيس الجامعة المصرية, و التأسيس الأول للأحزاب المصرية, النادي الأهلي, المتحف القبطي(1908) وسوف نستقبل مناسبات أخري مئوية( مرور95 عاما علي ثورة1919(2014),… الخ).


أذكر كل هذا بمناسبة حلول50 سنة علي ذكري رحيل أستاذ الجيل ـ أحمد لطفي السيد(1872 ـ1963). ولولا الدعوة التي وجهها لي الأستاذ الشاعر المتميز شعبان يوسف للمشاركة في ندوة حول ذكري الأستاذ بالاشتراك مع أستاذ التاريخ الكبير الدكتور أحمد زكري الشلق لما كنا تذكرنا الرجل وأهميته. وضرورة استعادته في لحظة تاريخية يحاول البعض عن جهل ـ ربما ـ, والبعض الآخر عن وعي بهدف القضاء علي مصر الوطنية الحديثة بكل إنجازاتها وبناتها.


ما أن وصلتني الدعوة حتي عدت إلي كل ما كتب الأستاذ من مؤلفات. كما تتبعت مسيرة حياته, وراجعت بعض ما كتب عنه. وأول ما خرجت به هو ضرورة أن نطلق عليه أستاذ الأجيال ـ لا الجيل ـ حيث وجدت أفكاره وآثاره لا تزال صالحة ليومنا هذا. وأن حياته كانت تتضمن الكثير من الخبرات المتشابكة والمتنوعة فلقد عمل: صحفيا, ومناضلا سياسيا سرا وعلنا, ووزيرا, وموظفا, وكاتبا, ومترجما. وأخيرا فإن مواقفه التي كانت محل نقد فإنها ما أن توضع في سياقها الكامل نجدها لا تخلو من وجاهة وخاصة عندما تستمع إلي وجهة نظره. كما أن مبادرته لترجمة اليونانيات( الفكر اليوناني) وتحديدا أرسطو, كانت ـ بكل المقاييس ـ مبادرة سابقة للعصر وثاقبة لأقصي حد.

وأخيرا من الظلم أن تكون الصورة النمطية التي ترسمها كتب التاريخ أو الثقافة السمعية حول الرجل وتصنيفه بأنه’ ليبرالي’ بشكل مشوه ومختزل لأسباب, محض, سياسية وربط الكلمة بألفاظ غير صحيحة وهو ما جري في مطلع القرن العشرين كما جري عندما جري تداول التعبير في الواقع السياسي عقب25 يناير ورد فعل الأنقياء الجدد عليه… وأنه آن الأون أن الاوان هذا التقسيم التعسفي والذي أظنه غربي بدأ مع بداية الحرب العالمية الثانية( رصدنا ذلك في كتابنا الحماية والعقاب: الغرب والشرق الأوسط’ ـ..2000 ويمكن الإحالة إلي كتاب بايندر الثورة العقائدية في الشرق الأوسط حيث يرصد فيها كيف رسم الغرب خريطة التيارات الفكرية وتلقف التيار الديني هذا التقسيم والعمل وفقه).
لذا فأنني اتفق مع الدكتورة عفاف لطفي السيد ـ ابنة شقيقه وأستاذة التاريخ في امريكا ومؤلفة مرجع مهم جدا عنوانه: تجربة مصر الليبرالية ـ عندما وصفت عمها فأوجزت شخصية الرجل كما يلي:’…كانت ملابسه حريصة عليه, لا تظهر منه إلا كفان نحيلتان نبيلتي الحركة والإشارة ورقبة طويلة تحمل رأسا كبيرا…
كبير العقل… كبير المعرفة… كبير المقام… إنه أحمد لطفي السيد…الأستاذ..’…لماذا… نتابع المقال القادم…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern