خطاب‏'‏ النرجس‏'‏ القديم جدا‏...‏

عندما أستمع إلي الخطابات السلطوية الراهنة لا أجد إلا وصف‏’‏ خطاب النرجس‏’‏ كي أصفها به‏.

وأذكر في هذا المقام كلمات بليغة لأحد الشعراء المعتبرين العرب المعاصرين يقول فيها عن النرجس:’ ينظر إلي صورته في الماء ويقول لا أنا إلا أنا’…
لا يري هذا الخطاب إلا نفسه فهو خطاب: منزه, مقدس, غير قابل للحوار…وإنما أيضا’ محصن’,…الأخطر إنه قديم…وهنا مربط الفرس…ماذا نقصد بذلك.


خطاب’ النرجس’ الراهن; يتوسل الدين ويتشح به, ويستخدمه في مواجهة الآخرين. وبهذا السلوك يصبح أي خروج علي هذا الخطاب إنما يعني خروجا علي الدين نفسه. هذا بالرغم من أن موضوعات هذا الخطاب تتعلق بما هو زمني وبالبني الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تحتمل رؤي مختلفة واجتهادات متنوعة بحسب التطور التاريخي وخبرات الآخرين. ومن هنا كانت قداسة الخطاب, إلا أن الأخطر كما ذكرت هو أنه’ قديم’ تجاوزته الخبرة الإنسانية بالتمام علي اختلافاتها الحضارية والثقافية.ويظهر قدم هذا الخطاب عندما يبدأ بترك العموميات التي يستخدمها في الترهيب, ويبدأ يسترسل في التفاصيل, ما يعني أن يفصح عن نفسه, وعليه ينكشف المستور…ودعوني أشير إلي عينة( مقتطفة من أحاديث إعلامية تليفزيونية) لبعض مما يتضمنه خطاب’ النرجس القديم'( قديم أخر حاجة بحسب تعبير الشباب)..
‘مال العمال بالسياسة’,
‘حقوق المرأة حتهدم الأسرة’,
شعبنا شعب طيب مش بتاع عنف’,
الإعلام الفاسد هو اللي مبوظ الناس’,
طاعة الشباب للأكبر منه واجب,
تعكس هذه المقولات, وغيرها, الكثير والكثير.


أولا:أنها لم تدرك بعد ماهي طبيعة التحولات التي جرت في مصر في الفضاءات المصرية: المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. تحولات وصفناها بالكبري منها:التحرك القاعدي للمواطنين, مواجهة النظام الأبوي, إسقاط القداسة والعصمة عن السلطة/الحاكم, إسقاط الشمولية, النضال من أجل الحقوق بأبعادها.وأي محاولة لإعادة انتاج القديم مآلها الفشل.


ثانيا:إن الحراك الذي انطلق في مصر25 يناير, لم يكن حراكا نمطيا علي شاكلة الثورة الفرنسية أو الموجات’ الانتفاضية’ والثورية التي تلتها أو الارتداد إلي الملكية بعد الجمهورية. إنه’ حراك مركب’; تقاطع فيه كل من: الجيلي, والطبقي, والمكاني, والجهوي, والديني, والمذهبي, والجنسي. حراك بدأ بكفاية, وانتشر وتمدد من الفئوي إلي الديني إلي الطبقي.تم علي مراحل واتخذ اشكالا مبدعة من الاحتجاج في ظل لحظة معرفية وتقنية يسرت للطليعة الرقمية الشبابية أن تؤمن تغييرا غير مسبوق وفريد. حراك في مواجهة عقود من الاستبداد السياسي والديني والثقافي اوصل مصر إلي ما هي عليه. حراك احتضنه الميدان كتعبير رمزي عن ترك التحريريين خانات وأركانا وزوايا كانوا قد انكفأوا فيها في وقت انسدت فيه المجالات الجامعة لحركتهم: مدنية وسياسية واجتماعية. إنها استعادة المواطنين من جماعاتهم الأولية( لهذا لا يعني التنكر لها).


ثالثا:إعادة الاعتبار ـ لما وصفناه في إحدي المقالات ـ للمسألة الاجتماعية الاقتصادية. فالعلاقة بين المواطن والسلطة لا تقوم علي عصبية الدم أو القرابة أو الثقافة أو الدين وإنما تقوم أساسا علي سؤال بسيط: لمن تنحاز السلطة القائمة ـ أيا كانت أيديولوجيتها ـ اقتصاديا واجتماعيا؟ وفي أي مصالح تصب سياسات هذه السلطة بالأخير؟ لذا لم تكن مصادفة أن يصل عبد الله النديم في1879 مع خلع إسماعيل الا أن العصبية التي يجب أن تقوم هي’ عصبية الفقراء’ ـ أيا كانت اختلافاتهم ـ لما آلت إليه الأحوال في مصر آنذاك. وعليه من حق العمال أن يمارسوا السياسة, لأن العمل يقوم علي علاقات انتاج ولابد من تقنين وتنظيم العلاقة بين صاحب العمل( العام والخاص) والعامل وفق جديد العالم في التشريعات.


رابعا: لن يستقيم استخدام التقويم النمطي لأننا صرنا نعيش ما يمكن أن نطلق عليه:’ الزمن الحر’,بفعل التقنيات التواصلية المتجددة. وأن عالم جديد يتشكل له’ البراديم'( الإطار) الجديد المعبر عنه(إذا ما استخدمنا تعبير آلان تورين ـ2005) ومن ثم فإن استعادة منهج الإرشاد السلطوي الفوقي للشباب الطالع أظنه غير مجد.ففي ملاحظة مبكرة لنا حول الشباب( منتصف التسعينيات) قلنا أنه في طريقه لفك الارتباط بالمرجعيات التقليدية وأنه سوف يخلق ويعيش في عوالم من صنعه.ومن حق الشباب أن ينطلقوا يبدعوا ويتفاعلوا مع العصر ويكونوا خبراتهم دون أن نفرض عليهم خبراتنا أو وضع صورة يجب أن تكون عليها المرأة المصرية تحت مظلة الخصوصية الثقافية بات كلاما في غير محل وفي غير سياق, خاصة مع تصدرهن الاعتصامات والمظاهرات حيث يشكلن ثقافة جديدة حية واقعية.
الخلاصة فات آوان النرجس…هذا هو الدرس…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern