نعم الحركات الدينية تنحاز طبقيا

أثار مقال الأسبوع الماضي حول‏’‏ الحركات الدينية والانحيازات الطبقية‏’,‏الكثير من النقاش‏.‏لأنه يفتح باب البحث إلي أي مدي تنحاز الحركات الدينية طبقيا‏.‏وكنا

أثرنا هذا الموضوع في ضوء الدراسة الفرنسية ـ التي أشرنا إليها المعنونة ـ الشعب يريد ـ والتي تناولت حركة’ الإخوان’ وألقت الضوء حول التركيبة الاقتصادية لعناصرها القيادية والقاعدة الاجتماعية للجماعة لانحيازها إلي الاقتصاد التجاري ـ بامتياز ـ ومعالجتها لقضايا المهمشين عن طريق’ الخيرية’. واتخاذها قرارات اقتصادية منحازة إلي اقتصاد السوق.


في هذا السياق, ذكرني احد الأصدقاء إلي دراستي المبكرة’ لتجربة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية'(نشرت يناير1994 في مجلة القاهرة وتعد الأولي باللغة العربية في مصر حول هذا الموضوع وسوف ننشرها محدثة مع النص التأسيسي رفيع المستوي لمؤسس الحركة جوستافو جوتيريز للمرة الأولي في الثقافة العربية), وكيف انحازت هذه التجربة للفقراء والمهمشين’ وللغلابة’ بشكل أساسي في مواجهة ما يعرف هناك بطبقة’ الكريول’ الثلاثية;أو تحالف: الإقطاع, الجنرالات, والمؤسسة الدينية المحافظة.(نتحدث عن تجربة لاهوت التحرير تفصيلا في مقال/ مقالات منفردة لاحقة).


فتحت هذه الدراسة أفقا صحح لي نظرة كان يحاول البعض أن يكرسها في واقعنا ـ آنذاك ـ بأن الحركات الدينية هي تجسيد للدين’ الوحي’, ومن ثم فهي لا تنحاز ودورها تطبيق الدين في صورته النقية.ذلك لأنه تبين أن الحركات الدينية في عديد من السياقات والتي تبدأ من نقطة مطلقة. نجدها مع التطور الاقتصادي/ الاجتماعي, ومع الاختلافات الاقتصادية/ الاجتماعية تعيد تقديم نفسها تبريرا, أو تفسيرا, أو تأويلا; بحسب درجة التطور ومستوي الوعي. وتؤكد الموجة الرابعة من الكتابات الخاصة بعلم الاجتماع السياسي/ الديني هذا المعني( راجع دراستنا قيد الطبع الدين والمجتمع والدولة والعالم إطلالة علي الأدبيات المعاصرة).

فبقدر ما تتقدم الأوطان: ذلك بتجدد نمط الانتاج, والانفتاح علي جديد العصر المعرفي والتقني, يتجدد الفكر والخطاب الدينيين ولا اختلاف هنا بين دين أو آخر. وهنا لابد ان نشير إلي مثقفنا الكبير الموسوعي لويس عوض, الذي نحتفل بمئوية ميلاده بعد عامين(1915 ـ1990), كيف حاول في كتابه:’ ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبية’, أن يلفت النظر ـ مبكرا ـ إلي أن الخطاب الديني المتشدد الذي كان يعطي لنفسه الحق أن يحرم ويكفر بعيدا عن القانون ظهر في الحالة الأوروبية, مبكرا مثلما هو الحال في سياقنا ـ آنذاك ـ, وأنها ظاهرة ابنة مجتمعها وتطوره التاريخي. وكيف أن النهضة/ الإصلاح/ التقدم الأوروبي قد طور من ضمن ما طور الفكر والخطاب الدينيين. وهو نفس ما وجدناه في أكثر من حالة وفي أكثر من سياق علي المستويين المسيحي والإسلامي علي السواء في دول/ مجتمعات الأطراف مثل:إيران, لبنان,البرازيل,ماليزيا,الهند.في إيران كيف كانت هناك حركة علي شريعتي التي حاولت إعادة تأويل الإسلام لمصالحة المجتمع وليس السلطة. أو محاولة المطران غريغوار حداد في لبنان مطلع السبعينيات. ولكنها تجارب ضربت بقسوة وعنف من قبل المؤسسات الدينية من جهة, كما أن التطور المجتمعي وعدم وجود قاعدة اجتماعية تدافع عنه لم يمكن من نمو هذه المحاولات. في المقابل وجدنا في أمريكا اللاتينية كيف أساهم المد الوطني بعد الحرب العالمية الثانية ورفع شعارات الاستقلال والنهوض الاقتصادي الذاتي في إثارة تساؤلات من قبل الجماهير من عينة:طبيعة دور المؤسسة الدينية؟ والرسالة التي تحملها نحوهم لمعالجة قضاياهم وهمومهم الحياتية وبالأخص علي مستوي الفقراء والمهمشين. لذا عقد المؤتمر الأول لأساقفة أمريكا اللاتينية في ريودي جانيرو عام1955, مطلقا رؤي جديدة حول مهام المؤسسة الدينية في المجتمع والتزامها مشاكلات المهمشين. وأظن أن الجهد’ الطرفي’ قد ضغط علي الفاتيكان في’ المركز’ للاستجابة لرياح التجديد لذا قامت بعقد المؤتمر الأشهر في تاريخه والمعروف’ بمؤتمر الفاتيكان الثاني’. وهو المؤتمر الذي قام بالكثير من المراجعات الذاتية.


في الولايات المتحدة الأمريكية ظهرت أيضا حركة المسيحية الجديدة التي انحازت إلي الحداثة والتقدم. وفي مواجهتها جاءت حركة اليمين المسيحي الجديد( وهي حركة محافظة أشبه بحركة الإخوان في مصر درسناها بعناية في كتابنا الحماية والعقاب ـ2000), كحركة محافظة دينية لها حضور سياسي منحازة إلي’ الكرتلات’ الكبري في أمريكا. صفوة القول, الحركات الدينية تنحاز طبقيا ويتبلور هذا الانحياز مع الانفراجة السياسية والمدنية وتبلور المسألة الاجتماعية الاقتصادية,ما يعني أن هناك إمكانية أن تكون هناك في المقابل حركة دينية تنحاز إلي الفقراء.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern