فإن الفكر السياسي عبر العصور قد تناول تفاصيل كيفية جعل العدالة حقيقة. فلقد أسس أفلاطون للعدالة ـ في القرن الرابع قبل الميلاد ـ في كتابه الجمهورية بسؤال أولي, ربما يكون صالحا للطرح حتي يومنا هذا, ألا وهو هل من الممكن ممارسة الدولة المتحكمة لسيطرتها بدون العدالة, أم أنها مضطرة إلي توخي العدالة؟.
وإجابة عن هذا السؤال شدد أفلاطون علي أن:
الدولة لا يمكن أن تحكم إلا بالعدالة خاصة أن الفرد مهما اتصف بالعدل, فإنها تظل فضيلة شخصية يمكن أن يحقق بها بعض الأمور علي المستوي الفردي, إلا أنه سيعجز حتما عن أن يقوم بذلك لباقي أفراد المجتمع. وهنا تأتي أهمية الدولة من أنها تنشأ عن عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته من جهة, كذلك تنامي الاحتياجات لدي باقي أفراد المجتمع من جهة أخري, خاصة مع تعقد المجتمع من حيث علاقاته وتطوره.
في ضوء ما سبق يعدد أفلاطون الاحتياجات التي علي الدولة أن توفرها لمواطنيها, فيذكر المأكل باعتباره أول الاحتياجات, لأنه شرط الحياة والوجود…وثاني هذه الاحتياجات المسكن, وثالثها الملبس وما شابهه….ويتجه الحديث منطقيا إلي الحديث عن تنظيم المجتمع من خلال سياسات تتوافق مع أهدافه, وعلي قاعدة عمل إنتاجي يضمن للجميع أن يكونوا في رغد من العيش.
وعلي الرغم من أن أفلاطون انطلق من نظرة للعدالة محافظة تدعو لاستقرار الأوضاع وتجميدها. إلا أنه يحسب له أنه وضع أسسا حكمت أي مناقشة لاحقة ـ بدرجة أو أخري حول قضية العدالة/ المساواة, أخذا في الاعتبار التطورات التي استجدت علي العلوم السياسية والاجتماعية بحكم التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي لحق بالمجتمعات الإنسانية علي مدي التاريخ, خاصة أن البيئة المجتمعية للعدالة; أصبحت دائمة التغير( بحسب كتاب مختصر تاريخ العدالة لجونستون ـ2011), بسبب انتقال المجتمع من مرحلة تاريخية إلي أخري, ودوما كان يتسم هذا الانتقال بحدوث تغيرات بنيوية في البني الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية من خلال ـ في الأغلب ـ الثورات والصراعات الداخلية تارة, والحروب الإقليمية والدولية تارة أخري, وذلك نتيجة الظلم الداخلي أو الاستعمار الخارجي. وواكب ذلك دوما نضالات متنوعة من أجل العدالة/ المساواة. وفي هذا السياق كانت تتشكل الدولة وفق موازين القوة السائدة. وتبين أن مناقشة قضية العدالة/ المساواة لا تستقيم بغير الحديث عن: طبيعة الدولة, والتوجهات العامة لها, والبناء الاجتماعي القائم, والسياسات المتبعة التي من شأنها تحقيق المساواة والرفاهية لأفرادها/ لمواطنيها, نمط الإنتاج, والعمالة, طبيعة الدولة…الخ.
وخلال المسار التاريخي للإنسانية تبين أن قضية العدالة/ المساواة أكثر من أن تكون قضية أخلاقية أو دينية محض, يمكن حلها بالعمل الخيري, فهي ترتبط ارتباطا وثيقا: بنيويا وهيكليا بحركية المجتمع وطبيعة الدولة بهياكلها ونمط الإنتاج السائد والتوجهات المعمول بها, وعن مصالح من تعبر, وأخيرا السياسات القائمة ومدي قدرتها علي تحقيق المساواة أم لا. وكانت ذروة هذه النقاشات والالتفات الحاسم لقضية العدالة/ المساواة مع الثورة الفرنسية حيث تم تأسيس مبدأ الحق في المساواة, وضمان تحقيق العدالة. وهو ما أسس آفاقا جديدة علي المستويات المدنية والقانونية والسياسية وأخيرا الاقتصادية والاجتماعية. فباتت العدالة حقا أصيلا لا منحة. ولا تزال النقاشات مستمرة بل متزايدة, خاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي تعرض لها العالم في2008 وتبين حجم التفاوتات بين البشر في المجتمع الواحد وعالميا بين الدول. ومن ثم ضرورة ترجمة العدالة إلي واقع في البيئة المجتمعية.
الخلاصة, أن العدالة المجتمعية بكل أبعادها أحد أهم مطالب25 يناير. وحتي الآن لم ننظم نقاشات جادة حول رفع المظالم, وتحقيق العدالة, في ضوء رؤية لنموذج تنموي مترابط العناصر يعبر عن جديد احتياجات الأجيال الطالعة. كما لم تعكس الوثيقة الدستورية رؤية عميقة مركبة للعدالة تمتد لمؤسسات الدولة/ المجتمع المختلفة, وللمجالات المتنوعة: اقتصادية, واجتماعية, و سياسية ومدنية وثقافية كذلك للعلاقات المجتمعية الجنسية والجيلية والطبقية والدينية. الأكثر والأخطر اننا نستعيد نفس النهج والسياسات واللغة التي ثار عليها الشباب بطليعته الرقمية وقاعدته الاجتماعية الخطيرة القادمة من أحزمة المدن والهوامش. ومن ثم فإن تكريس غياب العدالة الذي سيواجه بغضبة مجتمعية عارمة, لن تنفع معها العلاجات التسكينية النمطية أو المبادرات التطويقية…ونتابع.