الديمقراطية‏:‏ تأسيس جديد أم استعادة للقديم؟

أي حديث عن التحول الديمقراطي إن لم يكن في إطار رؤية متكاملة لكيفية إحداث هذا التحول والانتقال بمصر من الحالة الاستبدادية المتخلفة إلي أخري ديمقراطية متقدمة سوف يكون حرثا في البحر‏,‏

 وفي أحسن الأحوال استعادة للقديم الذي تم الحراك ضده. ويبدو اننا لم ندرك بعد الدلالة الرمزية لمعني إسقاط حاكم في مصر نتيجة للإرادة الشعبية. وهو ما يعني الكثير. فالقارئ لثورات المصريين عبر العصور سوف يدرك أهمية ما جري في25 يناير.2011 فإسقاط حاكم يقابله موضوعيا حرية حركة للمواطنين, أنه تأسيس جديد للمواطنة في مصر من حالة تبشيرية كنا نتحدث عنها وننادي ونعلم بهاوندرب عليها إلي حالة يمارسها المحكومون وبها انتقلوا إلي فعل المواطنة إنه بداية لمسيرة طويلة من ميلاد الفرد/ المواطن بحسب أدبيات الفكر السياسي,أو لسلطان الشعب بحسب أحد شباب التحرير.
ونشير إلي قانون الانتخابات الجديد,التي يبدو لي أننا نستعيد بها نقاشات قديمة دارت من قبل من جهة.ومن جهة أخري الميل إلي إنجاز الجانب الاجرائي اللائحي في العملية الديمقراطية.أنا شخصيا استمعت لها منذ التأسيس الثاني للحزبية في مصر( أي منذ سنة1975). من هذه النقاشات النظام الانتخابي الأمثل لمصر: الفردي, أم بالقائمة, أو المختلط ونسبة الفردي للقوائم فيه. كذلك حول وضع المرأة والأقباط, وتوزيع الدوائر,…الخ. نفس التحفظات والمناورات والحجج ومراعاة اللعبة الانتخابية في أضيق مصالحها.


واقع الأمر إن ما نحتاجه ـ في ظل اللهاث من أجل إنجاز كل ما هو إجرائي هو إعداد رؤية متكاملة لمشروع ديمقراطي جوهره المواطن المصري. مشروع يشيع القيم والمفاهيم الديمقراطية ويعيد بناء المؤسسات الحكومية والمدنية علي أسس ديمقراطية وأخيرا توضع القوانين واللوائح بما يخدم المشروع الديمقراطي الجديد.


وفي ضوء الخبرة التاريخية لدول مرت بعملية تحول ديمقراطي,فإن نقطة البدء هي تبلور مشروع لدي النخبة السياسية والمدنية منبثق من حوار مجتمعي شامل دائم مع المواطنين يهدف إلي تأسيس ديمقراطي يمتد لحياة الناس ومن أجلهم,وللمؤسسات, وللدولة ككل. وبحسب تشارلز تيلي في مؤلفه المرجعي الديمقراطية يقول:…اتفق علي أن العملية الديمقراطية تتكون من دولة ـ بالمعني الواسع للكلمة ـ, والمواطنين, والمؤسسات المتعددة.ويقاس مدي الاتجاه نحو الديمقراطية وإقامتها أو الإطاحة بها بمدي وجود مشروع ينحاز للمواطنين ـ علي اختلافهم ـ وعليه يتجلي في التشريع والسياسات العامة والسلوك المؤسسي….ونضيف أي في التعليم والإعلام والثقافة والخطاب الديني والعمل المدني والفن والأدب…الخ.


بهذا المعني لم تعد الديمقراطية الموضوع الذي تناقشه النخبة في غرف مغلقة أو حلقات حكم أثينية.وإنما له وجه مجتمعي يراعي كل المواطنين علي اختلاف توزيعهم في الجسم الاجتماعي وثقافيا. بلغة أخري لم يعد مقبولا أن تقتصر العملية الديمقراطية علي الصيغة القديمة التي تتكون من نخبة المدينة أو الحاضرة مع حشد جماهيري موجه( حزب حاكم/ عزوة/ قبيلة/فئة/ جماعة) في الأطراف لجماهير تخدم علي فئة بعينها بما يخل بالعملية الديمقراطية في جوهرها. فالعملية الديمقراطية في صورتها الحديثة لابد أن تقوم علي المواطنة وفق المصالح الاجتماعية والاقتصادية علي قاعدة عدل سياسي واقتصادي وثقافي بين الجميع.


الخلاصة إن لم تكن رؤيتنا للعملية الديمقراطية تتجاوز القانوني/ اللائحي الضيق إلي النظرة الشاملة, فلن يزيد الأمر علي استعادة القديم في صورته الإجرائية الضيقة مع بعض التحسين. ومن ثم إضاعة فرصة تاريخية من أجل أن نؤسس لزمن ديمقراطي مصري يواكب تضحيات المصريين نبلغ به ما يطلق عليه بنجامين باربر: الديمقراطية القوية, تمييزا لها عن الديمقراطية الضعيفة.


فالاكتفاء بالأشكال الديمقراطية من حيث وجود أحزاب وانتخابات برلمانية ومحلية دورية,وهياكل مؤسسية كالبرلمان,وقوائم مرشحين وسجلات بأسماء ناخبين, بفرض صحتها,أي كل ما يتعلق بالعملية الانتخابية,لا يعبر في حقيقة الأمر عن أن هناك ديمقراطية قوية.
الأمر أعقد من ذلك, ولابد من أن يمتد إلي مناهج التعليم حيث منهج التاريخ هو منهج تاريخ الحكام, والذي لا يفرق بين حاكم وافد وآخر وطني, ولا توجد إشارة واحدة لثورات المصريين عبر العصور منذ الفراعنة, كما يمتد إلي المؤسسات الحكومية التي تتضمن في تقاريرها للأداء الوظيفي( أو ما يعرف بالتقارير السرية) وفي أول سطر تقييم المسئول لطاعة الموظف…وليس لابتكاره…ولمنظومة الإدارة التي تدار علي أساس هرمي بطل من العالم كله. وإعادة النظر إلي تفكير ديني يكرس لعصمة الحاكم ويحرم شراكة المواطنين علي أسس دينية وجنسية… الخ…ونتابع.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern