شرعية الجمهورية العادلة

العدالة‏,‏ كقيمة وفكرة ومطلب واجب التحقق‏,‏ حلم الإنسان منذ القدم‏.‏ وقد نجح التحريريون أن يجددوا الاهتمام بها وأن يعيدوها إلي مركز الصدارة في الأجندة الوطنية‏.
 

ومن أجلها بذلوا الكثير واستشهد وأصيب وفقد الآلاف من شباب الحركة الثورية المصرية منذ 25 يناير, وهو ما أدي إلي أن تلتزم القوي الثورية والسياسية بضرورة أن يكون العدل أحد مقومات جمهورية مصر الجديدة, حيث شرعيتها لن تكون لها قائمة إلا بتحقيق العدل عمليا في حياة المواطنين علي أرض الواقع في شتي المجالات.


وعليه لم يكن غريبا أن تصبح كلمة العدل بمشتقاتها من المبادئ التي لا يمكن أن يتغافل عنها أحد عند الحديث عن المستقبل, فجاءت, مع التفاوت في درجة الوعي, برامج الأحزاب ومن بعدها البرامج الانتخابية البرلمانية ثم الرئاسية لتضع العدالة علي قمة أولوياتها. وكأن هناك إدراكا أنه لا شرعية لأحد إلا بإقامة الجمهورية العادلة ـ إذا ما استعرنا تعبير أرسطوــ. ما الذي أدي إلي ذلك؟ وما أهم ملامح الجمهورية العادلة؟
قبل 25 يناير اختل ميزان العدالة في كل من مناحي الحياة. اقتصاديا: انحازت السياسات الاقتصادية المعروفة بالنيوليبرالية الجديدة إلي الأقلية الثروية الاحتكارية, ما أدي إلي تشكل مجتمع الخمس, أي احتكار 20% من المصريين لـ80% من عائد الثروة العامة للبلد (الأقلية الثروية) وترك 80% من المصريين يتنافسون علي الـ20% المتبقية من ثروة البلد, نعم كانت هناك نسبة نمو تقترب من 7% إلا أنها لم تكن توزع بشكل عادل ومن ثم كان الاستثمار يقابله الإفقار.


طال الاختلال العلاقات الجيلية, وعدم التوازن بين حرية الاستثمار وفتح السوق علي مصراعيها وبين حرية الممارسة السياسية والمدنية, فكان الانفتاح الاقتصادي للقلة( رأسمالية المحاسيب بحسب محمود عبد الفضيل) يقابله انسداد سياسي ومدني. بالإضافة إلي التطرف الديني والثقافي, وتأخر تحقيق العدالة بين المتخاصمين قانونيا, وامتد الأمر إلي مس الفكرة الجمهورية في الصميم من خلال التسويق للتوريث, وهو ما يمثل انقلابا جذريا فلسفيا للفكرة الجمهورية, وليس مصادفة أن وجدنا الطبقة الوسطي التي هي العمود الفقري للجسم الاجتماعي لأي مجتمعتغيب بإرادتها/ تغيب قسرا.
في هذا السياق جاءت 25 يناير لتستعيد الجمهورية معني ومبني: الجمهورية العادلة التي تتكون من مؤسسات حديثة لا جماعات أولية وقبائل. عدل يبقي علي انتقال السلطة وفقا للقيم الجمهورية من جهة. ومن جهة أخري, إعادة التوازن بين الأغنياء والفقراء من خلال إقامة العدل الاجتماعي بين المصريين من خلال توزيع عادل للثروة.كذلك عدل بين المختلفين دينيا وثقافيا وجنسيا وجيليا, ولعل الحضور اللافت للطبقة الوسطي في المشهد السياسي يؤكد أهمية عودتهم لضمان تحقيق التوازن.


ولبلوغ ما سبق يصبح السؤال الذي يجب الانشغال به هو: أي نموذج تنموي نريد لمصر؟.. وهو السؤال الذي لا يجيب عنه أحد, حيث يتم استدعاء كلام عام جدا حول الاقتصاد في ظل التفنن في صناعة الاستقطاب بين المصريين. فعلي الرغم من اهتمام الجميع بمبدأ العدل كما أشرنا. فإنه اهتمام لا يزيد علي أن يكون كلاما ذا طابع أخلاقي.
ونذكر هنا أنه من غير المعقول أنه بعد أن سببت سياسات الليبرالية الجديدة كل ما سببته أن نجد البعض لم يزل يتحدث عنها, ونذكر ذهاب البعض( منهم شخصية قيادية برلمانية في استقباله لأحد الوفود الأجنبية) إلي التزام مصر بالديمقراطية والاقتصاد الحر. والمفارقة أن الربط بين الديمقراطية والاقتصاد الحر من الشعارات التي تم تسويقها مبكرا منذ أن بدأ الغرب يروج للنيوليبرالية في 1979 التي تقوم علي الخصخصة وتحرير السوق, ومن يراجع كتاب هانتيجتون الشهير الموجة الثالثة سوف يجد تأكيد الربط بين الأمرين وهو ما تبنته المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي…الخ.


والخلاصة.. ليس من المناسب الحديث عن اقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر مجددا, ولا يمكن قبول هذه الوجوه التي تطل من حين لآخر من كهوفها كي تعيد علينا نفس الخطاب المالي/ السوقي الركيك ولا نقول الاقتصادي, وكأن مناداة التحريريين بالعدالة لم تحدث بسبب الكوارث التي جرت.
تقوم العلاقة الوطيدة بين نشأة الرأسمالية والديمقراطية تاريخيا علي اقتصاد انتاجي وابداعات تقنية بسبب التنافس, وأدي التطور الدائم إلي ضرورة وضع عقد اجتماعي كإطار للشرعية. العقد الاجتماعي التاريخي بين الدولة والمواطن: حول الحريات ونظام الحكم وماهية منظومة الحقوق, وتحديد المسافات بين كل المجالات بحيث لا يجور فيها الاقتصادي علي العام/ السياسي/ المدني, في ظل النظام الرأسمالي. كما تتحدد العلاقات بين أصحاب الأعمال والعمال, وأن تتنوع جماعات المصالح وتتشكل النقابات والروابط والتحالفات ما سمح بانخراط المواطنين في العملية الانتاجية من جانب والعملية السياسية والاجتماعية والمدنية من جانب آخر, وان تنطلق الابداعات الثقافية والفنية بحرية تامة, كذلك الاجتهادات الدينية بلا خوف, وفي هذا المقام باتت الديمقراطية الناجحة تمنح الشعوب فرصة لحماية مصالحهم وأسلوب حياتهم بقدر الإمكان. ولا تكون أداة لتقنين الظلم الاجتماعي من خلال التشريع لمصلحة الأغنياء أو أصحاب الطغمة.


علي العكس أصبحت الديمقراطية في ظل الليبرالية الجديدة أداة لتكريس التفاوت بين البشر (بحسب جان جاك روسو), حيث أصبح التفاوت هو أساس الشرعية في البلدان التي طبقت اقتصاد السوق وواهب المكانة. وذلك من خلال تشريعات تدور تقوم علي الجباية وفرض الاتاوات علي الأغلبية وتأمين الامتيازات للقلة الثروية, وهو أمر عانت منه الولايات المتحدة الامريكية في ظل حكم بوش الابن وهو ما دفع بأحد أهم أعضاء الكونجرس المخضرمين من الجمهوريين اليمينيين بشدة في العام 2002 إلي أن يصوت ضد الامتيازات التي يحظي بها الاغنياء في أمريكا, إنها السياسات التي عملت علي تطويق وضم العناصر المشاع كالماء والهواء والأرض, واعتبارها ثروات وأصولا تطلق إلي السوق ليستثمرها رأس المال المفرط في التراكم, ويحسنها ويعمل علي تطويرها وبذلك تدخل في عمليات المضاربة, وفي نفس الوقت تخلت الدولة عن أدوارها الاجتماعية التي تؤمن العدالة لعموم المواطنين, وتركت الخدمات لاقتصاد السوق علي أن تكون بمقابل. وليس مصادفة أن يتم استكمال هذا الأمر بإشاعة ثقافة محافظة تقيد الإبداع وتحجم التفكير النقدي وتجعل الفرد يدور حول الحلال والحرام.


لذا انتبه العالم لضرورة معالجة السياسات الاقتصادية التي أدت إلي كوارث اقتصادية, وباتت الدعوة إلي العدالة قضية محل حوار جدي نشير إلي جانب منها في مقال لاحق ولعل من أبرزها كتابات رولز وأمارتيا سن. والخلاصة, جمهورية مصر الجديدة لابد أن تقوم علي العدالة, وأن تكون العدالة جوهر شرعية الجمهورية الجديدة, بتوفير فرص متساوية للجميع,والوعي بأن العدالة لا تكمن في تشغيل ماكينة الصدقة لتعويض التفاوتات المختلفة…وإنما بتأسيس نموذج تنموي عادل وشامل.. وبقدر ما يتمتع المواطنون بالعدالة ويشاركون في إقامتها بقدر ما يرضون علي القائمين علي الجمهورية, حيث الرضا هو مصدر الشرعية.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern