مصر الجديدة‏..‏ بين دستوري المواطنة والغلبة

في حياة الشعوب والمجتمعات والدول لحظات فارقة‏.‏ ويعد‏25‏ يناير‏2011‏ لحظة فارقة في تاريخنا الحديث والمعاصر‏.‏ لحظة كاشفة بانتهاء صلاحية ما هو قائم وضرورة الانطلاق نحو مصر جديدة‏,‏

لأن المصريين يستحقون كل ما هو أفضل. اتفق المصريون علي ضرورة التغيير وأن أي تغيير قادم لابد أن يتأسس علي قاعدة تقوم علي الكرامة الانسانية والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية. جمعت الدعوة للتغيير كل المصريين دون استثناء. انطلق المصريون ـ دون تمييز ـ إلي ميدان التحرير وكل الميادين المصرية. ولأن اللحظة الثورية شارك فيها الجميع ومن ثم تحقق ما يمكن أن نطلق عليه المواطنة الثورية وما يترتب عليها من أن ينخرط الجميع في بناء دولة المواطنة. وأول خطوة في بناء هذه الدولة هو التوافق علي ملامح مصر الجديدة مما يعني تأمين المواطنة الدستورية أو الشراكة الوطنية بين كل الوان الطيف المصري للتواصل فيما بينها لوضع وثيقة التوافق.


وبغض النظر عن أننا كنا نتمني أن يحدث هذا وقت الزخم الثوري إلا أنه لم يحدث فإننا نود أن نضع بعض الملاحظات التي تعين في الوصول إلي توافق وطني حقيقي يعبر بحق عن روحية25 يناير لا تحيزات البعض.
لعل أولي هذه الملاحظات هي تجنب إدارة العملية الدستورية بمنطق الغلبة. وقبل أن نفسر نقول كيف أن الدستوريين المعتبرين قد حذروا من السياق الذي يوضع فيه الدستور. وهو ما أدركناه في دراسة لنا عن الأقباط والشريعة الإسلامية منذ سنوات, من أن هناك دستورا يمكن أنه نطلق عليه دستور ولي الأمر حيث الحاكم بمعزل عن شعبه, يقرر تغيير الدستور أو وضع جديد حسب مصلحته ومناوراته السياسية. وهناك دستور الحركة الوطنية حيث المواطنة الثورية نجدها متجسدة و متطابقة في المواطنة الدستورية من حيث الشراكة الوطنية التامة والحاضرة. وهناك أخيرا ما يمكن أن نطلق عليه دستور الغلبة.


والغلبة تعبير استخدمناه في يونيو الماضي تحذيرا من أن الأوطان لا تبني بالغلبة. وأن أي تيار يظن أنه قادر علي ذلك ربما لحداثة ممارسته السياسية أو لعدم إدراكه الخبرة المصرية المركبة فإنه عليه أن يراجع نفسه. وهنا بالضبط سبب موقفنا من أننا كنا نفضل أن يعد الدستور في ظل الزخم الثوري قبل الانتصار السياسي. حيث يؤدي الشعور بـ الغلبة إلي عدم رؤية الآخر. فالذات وحدها تكون محور الحركة والهدف هو الانتصار لها. وهنا يصبح هذا الطرف قاب قوسين أو أدني من الذات المغلقة. ذات لديها امتيازات تميزها عن الآخرين. ومن نتائج ذلك أن يصبح من يؤمن بذلك أشبه بالجماعة المغلقة تتصاهر من داخلها ولا تتعامل إلا مع من ينتمي لما تؤمن به…الخ. وينتهي الأمر بأن من يشعر بالغلبة فإن من حقه أن يكفر ويقيم ويهدد ويتوعد ويحدد…وتظن ان هذا الشعور لا يقيم الأوطان. وتجدر الإشارة أن ثورة1919 قد وضعت دستورها في1923 ونظمت أول انتخابات برلمانية في1924 وفق هذا الدستور لذا كان هذا الدستور ـ بغض النظر عن اي ملاحظات ـ دستور الشراكة الوطنية.


الملاحظة الثانية هي الاصرار علي أن تكون النسبة الكبري من أعضاء الهيئة التأسيسية من البرلمانيين والتي ستنتمي بداهة ـ في وجود أكثرية سياسية ـ إلي هيمنة تيار بعينه. وهنا تتحقق الغلبة عمليا وهو ما يتنافي مع المواطنة الدستورية. ونامل أن تكون الأغلبية من خارج البرلمانيين خاصة أن من يدير العملية بالفعل هو البرلمان وهو ما يعد ضمانة في ذاته. وأظن أن هذا وحده يحقق ما قاله السيد سعد الكتاتني ـ ونقدره بشدة ـ أن نسعي لوضع الدستور بالمشاركة لا بالمغالبة. أو ما يمكن أن نطلق عليه دستور المواطنة.


الملاحظة الثالثة المقلقة هي ما نسمعه من كثيرين من أن إعداد الدستور لن يأخذ وقتا بل جاهر البعض من أنه جاهز. ويبدو لي أن هناك اتجاها إلي إعادة انتاج دستور1971 مع تطوير الجزء الخاص بالنظام السياسي. وإذا كان هناك تراض عام علي ذلك فلا مانع. إلا أن الأمر أعقد من إعادة انتاج دستور قديم. واقصد بذلك انه لا يمكن أن يصدر دستور لمصر الجديدة عام2012 دون أن يتضمن شيئا مما يطلق عليه منظومة الحقوق الجديدة( نشير إلي دراسة مهمة للدكتور جمال مصطفي سعيد حول هذا الأمر)منها: الحقوق الرقمية, الحقوق البيئية, حقوق المعاقين, حقوق الملكية الفكرية, زرع الأعضاء, الحقوق الرياضية, الحقوق الغذائية.


الملاحظة الرابعة التي نسوقها في عجالة, هي اختصار الحديث عن الدستور باعتباره وثيقة قيمية أخلاقية وعدم الانتباه إلي أن الدستور باعتباره الوثيقة الوطنية الأعلي للبلاد يتحدث عن منظومة الحقوق والحريات وعن مقومات الدولة… الخ. وأن هناك الكثير من القضايا الجديرة بأن تناقش وأن تدرج خاصة مع فشل السياسات النيوليبرالية في العالم كله ومن ثم لابد من الحديث عن:
النموذج التنموي للدولة أو أي نموذج تنموي نريد لمصر. وهو ما يتطلب الحديث عن العديد من القضايا من عينة:
أولا: الخيار الاقتصادي لمصر,
ثانيا النموذج الاجتماعي الذي يجب العمل علي تأسيسه,
ثالثا: استعادة دور الدولة في تنظيم الاقتصاد
مراجعة كل السياسات الاجتماعية وابتكار سياسات تراعي كل سلبيات الأنظمة التأمينية للمساواة التي تم اختبارها وفشلت وبخاصة الإعانية, امكانية المصادرة وخاصة لمواجهة نهب الأراضي( مثلما يأخذ بذلك الدستور البرازيلي).


الملاحظة الخامسة تتعلق بما أسميه روحية25 يناير. وأقصد هل يستقيم ان يصدر دستور مصر الجديدة دون أن ينعكس فيه الجديد الذي جاءت به25 يناير. فلقد كنا نتحدث قبل ذلك عن مبدأ المواطنة, ولكن في25 يناير وعلي الأرض تجسد فعل المواطنة من خلال إرادة المواطنة. كذلك التمسك بالقيم الجمهورية رافضة التوريث الذي يتناقض مع جوهرها. كذلك بالجمهورية المعتدلة ـ بحسب المصطلح السياسي القديم ـ وأقصد بها التي تعدل بين الحكام والمواطنين وبين الأغنياء والفقراء والمختلفين ثقافيا ودينيا مكرسة المواطنة الثقافية بحسب ما رأينا في التحرير. كل هذه القيم التي لابد لها من تجليات دستورية تتفهم الطبيعة الجديدة لحركة المواطنين في المجال العام: السياسي والمدني. ليس فقط بمناقشة قانون الجمعيات وإنما كل أشكال التنظيم المدني والسياسي والثقافي والاعلامي…الخ. إنه مبدا تمكين المواطن الذي يعني تحرير الناس من أن يكونوا رعايا مرهونين لسلطة جماعاتهم الأولية. تحرر ينقلهم من الأشكال ما قبل حديثة مثل العزوة والعشيرة والطائفة إلي مؤسسية حديثة تضمن هوية مدنية للدولة.

وهو ما يعني أن يترجم ـ نصوصيا و عمليا ـ إلي قدرة فعلية تمكن المواطنين للتشاور وللتنظيم وللمراجعة وللمحاسبة ولصنع القرار أو مقاومته لو كان جائرا. كذلك تأمين الفرص المتاحة لهم وفق نظام عادل يكافئ بين الجميع يحسن مهاراتهم ومواردهم ويتيح لهم أن يكون لهم نصيب في الثروة العامة للوطن. يضمن هذا المبدأ ـ في ضوء كثير من الخبرات ـ ألا يصبح الحراك الشبابي الشعبي الثوري مجرد انتقال للسلطة من فريق من الساسة إلي آخر. كما يضمن التمكين أيضا تأمين التحرك الدائم ـ وفق إرادة المواطنة ـ ضد السلطة وسياساتها إذا ما أخلت بالكرامة الانسانية ببعديها: الحر والعادل.
ختاما أظن أنه من الأهمية بمكان أن نضع أمامنا كل الجهود التي بذلت خلال العام المنصرم من مختلف الجهات: الأفراد والمؤسسات…لأنها تعبر بحق عن طموحات وتوقعات كل مواطني مصر وهو ما يضمن تحقيق دستور المواطنة لا الغلبة.
تأتي في هذا المقام: وثيقة الأزهر, وثيقة التيار الرئيسي, وثيقة المجتمع المدني, وثيقة البرادعي, وثيقة المجلس الوطني, ووثيقة الدستور الشعبي, وثيقة البسطاويسي والجهد المبذول من خلال لجان الدستور التابعة لمؤتمر الوفاق, ووثيقة الدستور الثقافي المصري,…الخ. تبقي الحديث عن قضية الهوية ربما نتحدث عنها لاحقا.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern