دفاعا عن الحياة المشتركة‏...

يجب الدفاع عن الحياة المشتركة دعوة أطرحها ـ بعد تعديل بسيط ـ في ضوء مقولة لأحد الفلاسفة الفرنسيين تقول بأنه يجب الدفاع عن المجتمع في مواجهة الصراع الذي يجري بين طرفين أو أكثر بعيدا عن القانون والنظام العام وقواعده التي يتم التوافق عليها بين الجميع‏,‏وهو ما يعني الاستقطاب الذي ربما يؤدي إلي الاقتتال‏.‏

وما دفعني إلي طرح هذه الدعوة هو إننا في مصر,ومنذ سنوات,يجتاحنا ـ ما وصفناه مبكرا ـ السجال الديني من قبل المتشددين من المسلمين والمسيحيين;في الفضائيات الدينية والفضاء الانترنتي بأشكاله العديدة المتجددة دون حدود,..سجال ديني اجتهد فيه كل طرف:المسلم والمسيحي, بالتشكيك في عقيدة الآخر والتعرض لمقدسات كل منهما..الأمر الذي أدي إلي دخول العلاقات الإسلامية المسيحية دائرة الخطر الصريح,أو بحسب التعبير الذي استخدمناه ـ من قبل ـ تجاوز حد الأمان.. جاءت مرحلة السجال الديني كمرحلة ثالثة في إطار أربع مراحل للتوتر الديني التي بدأت

سنة1970(حادثة أخميم), وذلك كما يلي:أولا المرحلة العنفية من قبل جماعات العنف الديني تجاه الأقباط,وثانيامرحلة الاحتقان وتحول أية واقعة جنائية يكون أحد طرفيها مسلم والآخر مسيحي إلي واقعة دينية, وثالثا مرحلة السجال الديني, ورابعا مرحلة التناحر القاعدي حيث تحدث مواجهات بين المسلمين والمسيحيين لأسباب عديدة:بناء كنيسة,تحول ديني,… لم ننتبه إن السجال الديني, بما يتضمن من آراء عقدية:فقهية ولاهوتية مطلقة و قاطعة, عندما يجد طريقه إلي الإعلام, بما لديه من قوة غير محدودة علي التأثيرـ في زمن قلت فيه القراءة والبحث الجدي عن المعرفة الحقيقية ـ إنما يعني أن يتمثل كل منا مضمون هذا السجال علي أرض الواقع ـ بوعي أو غير وعي ـ في توجهات وسلوكيات ثلاث تتدرج من:


تجنب بعضنا البعض, أو استبعاد لبعضنا البعض, أو فرقة لا تلاقي فيها, أو نزاع جاهز للاشتعال في أي وقت حتي لو كان لأسباب غير دينية….ومع الفرقة والابتعاد يقوم كل طرف بتخيل صور ـ في الأغلب ـ سلبية عن الآخر..ويتم تكوين ذاكرة تاريخية كاذبة ووعي زائف تدعم العزلة بين الطرفين.. وهكذا يقف كل طرف عند ذاكرته السلبية بالطبع التي تبلورت تجاه الآخر والتي ينتج عنها ـ بحسب الباحث الفرنسي في العلوم السياسية برتران بادي ـ أن يقوم كل طرف بتعبئة أتباعه تجاه الآخرين,أولا:بالتبشير بفضائل الذات,وثانيا:بالتهجم علي الآخر…فتصبح اللغة السائدة:
نحن وهم;.. النتيجة أن أفكار وممارسات المتشددين أصبحت تؤثر وتربك وتزعج التيار الرئيسي من المصريين وتخل بالعقد الاجتماعي بينهم و تعطل الإطار الجامع للمواطنين..وتسدل ستارا علي الذاكرة الوطنية المشتركة..


وما أن أدي السجال الديني ـ الذي مارسه المتشددون ـ دوره,تهيأ المسرح لأن يتورط بعض من الرموز الدينية مسيحية وإسلامية بل وحركات من خارج الوطن( إسلامية ومسيحية) في جدالات سياسية تثير الفزع والهلع لدي المواطن العادي..أجواء تنقلنا من السجال الديني إلي درجة من الاقتتال السياسي تجد غطاء دينيا يبررها وما نجده يجتاح الانترنت عبر الفيس بوك واليو تيوب خلال الأيام الماضية يتلخص في:
أن يعلن المسلمون مقاطعة المسيحيين لأن هناك محاولة لإضعاف الإسلام..وأن يميل الأقباط إلي ممارسة حالة من الاستغناء عن الحياة المشتركة, وأن ينتشر خطاب الاستشهاد من قبل طرف يقابله خطاب الجهاد من قبل الطرف الآخر, ويردد البعض أن المواطنين المسيحيين وافدون علي مصر, وبالمثل فإن المواطنين المسلمين ضيوف في مصر..
إنها لحظة تحتاج منا إلي الدفاع عن مصر التعددية وتجديد رابطة المواطنة..إن الوقت ـ في الواقع ـ ليس وقت التحليل و التنظير فلقد كتبت آلاف الأسطر في هذا المقام..وإنما هو وقت المبادرات العملية لعلاج المشكلة من جذروها خاصة أننا تأخرنا في مواجهتها ـ بحسب الدكتور أحمد كمال أبو المجد.
في ضوء ما سبق, يبدو لي أن المقاربة الثقافية الاجتماعية هي المقاربة التي بتنا نحتاج إليها فورا..وربما قبل المقاربات السياسية والقانونية والمطالبية..مقاربة يتم تبنيها من قبل الدولة كيانات المجتمع المدني في إطار تكاملي تتجسد في عدد من المبادرات وذلك كما يلي:
التوقف الفوري عن السجالات السياسية والدينية والامتناع عن إطلاق التصريحات وكل ما من شأنه أن يهدد الحياة المشتركة.


تشكيل آلية ـ أقرب ـ إلي الخط الساخن( والتي طرحت في إطار العلاقات الدولية) بين القيادة السياسية والمرجعيات الدينية وبعض الشخصيات العامة التي لديها انجاز علمي وقانوني ومعرفي في مجال العلاقات المسيحية الإسلامية بعيدا عن التكنوقراط والوسطاء غير المؤهلين و المتطفلين علي هذا الشأن وذلك لترطيب الأجواء والتدخل الفوري عند اللزوم والتشاور. تشكيل آلية وطنية معرفية وتحذيرية ترصد التجاوزات التي من شأنها الإضرار بالعيش المشترك أولا بأول ونقدها والرد عليها فورا( الشائعات, إهانة المقدسات..الخ).

العمل علي تنشيط الذاكرة الوطنية الواحدة للمصريين والتأكيد علي فكرة مصر المركب الحضاري متعدد العناصر وذلك بالاستفادة من كتابات معتبرة وتبسيطها للشباب والشابات وللفتيان والفتيات,من خلال كتب مصورة وتضمين محتواها في الكتب المدرسية, وتخصيص مساحات زمنية في الفضائيات الحكومية والمستقلة لنشر مضمون هذه الذاكرة, الاسترشاد بكتابات المدرسة التاريخية الوطنية العلمية في استلهام الأفكار التي رصدت الحياة المشتركة بين المصريين عبر العصور, اشتراك رجال الأعمال من المصريين المسلمين والمسيحيين في تمويل مشروعات مشتركة ثقافية ـ اجتماعية وتنموية تصب في اتجاه دعم المصريين دون تمييز. تأسيس فوري لوقفية باسم الحياة المشتركة تعني بالحضور المصري:المسيحي الإسلامي المشترك من خلال نشاطات فنية وأدبية وثقافية,كما تسعي بالتعريف بكل الأنشطة الحكومية والمدنية التي تستوعب الجميع,كما تؤسس لموقع إلكتروني يدعم الحياة المشتركة بين المصريين.

تضمين المشروعات التنموية مثل مشروع الألف قرية الممول من الحكومة, أو المشروعات الممولة من المجتمع المدني بمكون يتعلق بالتكامل الوطني والاندماج عمليا. ترفع المؤسسات الدينية والرموز الدينية عن الدخول كطرف في التجاذبات الدينية وعدم التورط بإطلاق آراء بعيدة كل البعد عن ما استقر علميا وتاريخيا ويخل بالشراكة الوطنية.
إننا نثق أن الأغلبية من شعب مصر والتي تمثل التيار الرئيسي تميل إلي الحياة المشتركة وهي التي استطاعت عبر العصور أن توظف الاختلاف كي يكون طاقة إيجابية من أجل البناء والتقدم سواء في مواجهة المستعمر, وفي معركة بناء الدولة الحديثة بمؤسساتها ونهضة مصر.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern