منذ بدء الخليقة, قام التصور الدينى للجتماع الإنسانى على التواصل بين البشر من أجل إعمار الأرض, وحفظها وحمايتها من كل شر أو تهديد, وتيسير القدرة على التعايش بين البشر الذين يعيشون معا فى سياق مجتمعى واحد, على اختلافاتهم. فالإختلاف هو الأصل وليس التماثل… وعلى منواله سار الفكر الإنسانى بداية من المدينة الأثينية والجمهورية الأفلاطونية حيث توالت الاجتهادات المدنيى على مر العصور. ولأن مسيرة العلاقة بين البشر -تاريخيا – قد اتجهت نحو الصراع, فى الأغلب الأعم, فإن عملية التواصل الإنسانى قد تأثرت سلبا على المستويين الفردى والجماعى…
فمع تطور البشرية وتعقد علاقتها على جميع الأصعدة تعددت الصراعات لتعدد الأسباب المؤدية لها سواء:
– بسبب التنافس الاقتصادى / الاجتماعى.
– أو بسبب التنازع السياسى بين عناصر السلطة, أو بين السلطة والمحكومين.
– أو نتيجة للجمود العقائدى: الدينى أو السياسى, أو كلاهما.
– أو كل ذلك معا.
وهو مانتج عنه بالأخير, انفصال الإنسان عن دوره الإيجابى كلإبن لله أو خليفة له – بحسب الرؤيتين المسيحية والإسلامية. بل وتناقضه مع هاتين الرؤيتين على الرغم من توسله الدين فى تبرير هذا التناقض. وعليه مارس الإنسان التحيز والتعصب كما لجأ إلى العنف الأمر الذى أدى – بالأخير – إلى تكريس العزلة والكراهية بين البشر وإشعال الحروب طويلة الأمد بينهم.. وهو ما استلزم فى لحظة معينة أن ينادى بما يعرف تاريخيا فى الأدبيات المعتبرة بـ “سياسة التسامح”, لتجاوز العزلة والكراهية وبناء الجسور بين المختلفين والمغايرين, وعدم اللجوء إلى العنف لحل الصراعات بأسبابها المختلفة, وإنما اعتماد الطرق والوسائل السلمية فى سبيل ذلك… وكذلك المصالحة بين الدينى والمدنى.
وقد حدث ذلك فى كل من خبراتنا المصرية والعربية والإسلامية أو الشرقية بوجه عام من جانب والخبرة الغربية من جانب آخر. حيث أنتجت نصوصها مقدرة تدعو للتسامح بين الناس ولكن الاستجابة لك تكن واحدة فى كل من الخبرتين الغربية والشرقية.. لماذا؟ .. يبدو لى أن الصراعات فى الحالة الغربية قد ارتبطت بنقلات نوعية بنيوية فى مسيرة التطور الاجتماعى وهو ما سمح بأن يستجيب الناس لأطروحات دينية وفكرية / مدنية تصب فى بلورة قيم وآليات التسامح التى تمكن من استعادة الاجتماع الإنسانى المؤسس على التواصل بين البشر على الرغم من الاختلافات.
وعلى الجانب الآخر وبالرغم من توفر نصوص مقدرة دينية (لاهوتية وفقهية وفكرية) تحض على التواصل الإنسانى فى تراثنا المصرى والشرقى (أثناسيوس الرسولى والليث بن سعد مصريا – وباسيلسيوس الكبير ويوحنا ذهبى الفم والكندى ومسكويه شرقيا), وتصب فى دعم قيمة التسامح إلا أنها ظلت غير قادرة على الحضور الفاعل فى أرض الواقع – لأسباب كثيرة منها الإخفاقات المتتالية التى طالت الدولة الحديثة والصراعات المفتوحة العرقية والدينية والقومية والمذهبية ..إلخ, وهو ما جعل كل فريق يستدعى النصوص الغير متسامحة والأكثر تشددا فى مواجهة الفرقاء الآخرين.
فى هذا السياق, نجد كيف استطاعت القارة الأوروبية , فى لحظة تاريخية معينة وبعد أن خاضت حروبا ممتدة على مدى قرون, وخصوصا حروب الثلاثين عاما فى القرن السابع عشر, أن تعقد صلحا فيما بين دولها عرف بصلح وستفاليا فى عام 1648م. وبالطبع لم يتحقق ذلك مرة واحدة, ولكنه تنامى كقيمة نتيجة العمل على استمراريتها والنضال من أجلها, وهو ما جعل من النصوص قيمتها حيث حملتها الفئات الاجتماعية المختلفة ومارستها وباتت جزءا من تقاليدها بدرجة أو أخرى فى ظل تحولات مجتمعية كانت تسير فى اتجاه التقريب بين التفاوتات المختلفة.
فى هذا المقام, لابد من تذكر النص التأسيسى الهام للفيلسوف البريطانى جون لوك (1632-1704) والمعروفة بأنها رسائل “حول التسامح”, (كتبت فى الأعوام 1689و1690و1692), حيث يتحدث عن الذين “قاسوا من جراء التحيز الدينى” ويقول “بأننا فى أمس الحاجة إلى أنواع من العلاج أكثر كرما مما استخدمنا فى هذه الحالة من الاعتلال التى عانيناها”.. كما ينادى بأن: ” الاختلاف الدينى لايستوجب التأثير على الحق المدنى…” ذلك لأنه ليس ثمة إنسان مهما كانت صفته له أى حق فى أن يلحق الضرر بشخص آخر فيما يتمتع به مدنيا بسبب أنه ينتمى إلى عقيدة مغايرة..
ولاشك فى أن نص جون لوك كان ملهما لكل التشريعات التى صدرت منظمة لهذا المبدأ, بداية من قانون التسامح الذى صدر سنة 1689, إلى إعلان “مبادئ التسامح” الذى صدر عن اليونسكو فى عام 1995, هذا بالإضافة إلى الحركات القاعدية التى نجحت فى أن تؤسس لما يعرف بالمواطنة الثقافية التى تسمح بطرح أفكار مبتكرة حول التعايش “بتكافؤ” بين المواطنين من ذوى الأصول الثقافية المختلفة, ورؤى متكاملة لمواطنية التنوع حيث بات التسامح فى الغرب التزام مجتمعى وليس قيمة مجردة.
أن تراثنا يتضمن نصوصا -غير قليلة – حول التسامح تحتاج منا إلى أن نستعيدها لتكون حاضرة فى الواقع ليكون أكثر رحابة لاستيعاب التسامح كقيمة أساسية فى المنظومة الثقافية لمجتمعنا تدعم الحركة بين المختلفين فى المجال العام, بغير خصومة.
فإذا ماعدنا, مثلا, إلى تراث المسيحية المصرية يمكن أن ندرك كيف أن الإنسان عليه أن “يصالح” فى نفسه بين ما هو إلهى / دينى وبين ماهو زمنى / مدنى, مصالحة تمكنه من التحرك بانسجام بين الدائرتين الدينية والمدنية بغير خصومة… فالعلاقة الوثيقة بين الله والإنسان تقابلها علاقة التزام بين الإنسان والمجتمع لترقيته ونهوضه, فإذا كانت العلاقة الأولى هى علاقة بين أب وابن هدفها تحقيق الخير العام, فإن العلاقة الثانية هى المساحة التى يتم فيها تجسيد هذا الخير عمليا مع كل إنسان, مهما كانت هويته, بهدف تقدم المجتمع ككل… وهنا يكون الاختيار الحقيقى لجعل التسامح طاقة وقودها المحبة والمسئولية تجاه المجتمع والآخر من دون التوقف عند أية فروقات أو حواجز إثنية أو دينية, أو معايير تمييز وضعها البشر بسبب المصالح تحد من التسامح وتقيده.