تعكس الهوية السمات العامة التى تميز شعبا أو أمة أو فردا.. وهناك من يعرف الهوية بهذا التعريف ويصمت دون أن يزيد باعتبار هذه السمات ثابتة ومستمرة لاتتبدل ولا تتغير مهما طال الزمن..بيد أن هناك من لايقبل هذا المنطق ويضيف على التعريف السابق عبارة “فى مرحلة تاريخية معينة”, على اعتبار أن هذه السمات ليست مطلقة وانها خاضعة للتأثر بالواقع.. حيث الهوية فى هذه الحالة تستجيب لطبيعة هذا الواقع, فإذا كان متقدما تظهر الهوية على أفضل ما يكون والعكس صحيح.. وينطلق ما سبق من أن الهوية ليست موروثا مغلقا ساكنا معزولا عن التاريخ وما يطرأ فيه من تحولات, وإنما الهوية هى حالة ديناميكية منفتحة على الواقع.
حول موضوع الهوية أصدر “أمارتيا صن” فى منتصف عام 2006 كتابا بعنوان “الهوية والعنف”, وقد نال الكتاب شهرة كبيرة ودرات حوله حوارات مهمة عام صدوره, رأيت جانبا منها مطلع هذا العام فى أوروبا.. الأمر الذى جعل دار نشر بينجوين الشهيرة تصدره فى طبعة شعبية لاحقا… وهى الطبعة التى تسنى لى قراءتها..
وتمنيت أن أراه مترجما إلى العربية لما تضمنه من أفكار ثرية فى لحظة احتقان حرجة تشهدها المنطقة.. وقد سعدت سعادة بالغة عندما وجدته مترجما -هذا الشهر- من خلال سلسلة عالم المعرفة الشهيرة, ترجمة متميزة للأديبة المصرية سحر توفيق..
وأماتيا صن لمن لايعرف, هو عالم اقتصاد هندى نال جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية عام 1998.. درس وشغل مناصب علمية رفيعة المستوى فى جامعات:
كمبريدج, وأكسفورد, وهارفارد.. عنى فى أعماله بقضايا التنمية البشرية ومحاربة الفقر والحرية السياسية.. له كتاب صدر فى عام 2000بعنوان “التنمية حرية” كان للمثقف الكبير الكاتب والمترجم الأستاذ شوقى جلال فضل تعريف القارئ العربى به من خلال تقديمه وترجمته لهذا الكتاب عام 2004.
تأتى اهمية كتابه “الهوية والعنف”.. من واقع السياق الذى عاش فيه صغيرا من جهة, فهو من مواليد الهند 1933 وتحديدا فى دكا التى أصبحت فيما بعد بنجلاديش, حيث عرف الفقر فى الواقع الهندى وعايش الصراع الطائفى بين الهندوس والمسلمين, وما ترتبعلى ذلك من تقسيمات .. ومن جهة أخرى التحولات التى طرأت على المسرح الدولى وكرست الهويات المنفردة للبشر (نظرية صدام الحضارات) و “حصرهم” فى تصنيف أحادى لاغير بحيث يهيمن هذا التصنيف على ما عداه من تنوع يتميز به الفرد/ البشر فى وقت واحد. فالفرد بالاضافة إلى الانتماء الدينى يمكن أن تتعدد هوياته فقد يكون من بين الأغنياء والفقراء وعضوا فى احدى الطبقات الاجتماعية ومنتميا لأحد التيارات السياسية وممتهنا لإحدى المهن وابنا لقومية من القوميات ومتكلما لإحدى المجموعات اللغوية,.. الخ, كل هذا فى وقت واحد.. ومن ثم يرفض أمارتيا صن ما يلى:
التقسيم الصندوقى الجامد للأفراد/البشر.. لما يترتب عليه من تصنيف مغلق.
o و “وهم الهوية المتفردة لأن من يعتنق ذلك فإنه يمارس الاستعلاء على الآخرين فلا يرى غير هويته, وهذا يعنى ضمنا ممارسة النفى والاستبعاد – ومما لاريب فيه – العنف بالأخير.
o والهوية ذات “الارتباط الأحادى لتى تفترض – باختزالية شديدة وبتضليل متعمد أيضا- الارتباط المفرد إلى هوية واحدة جامعة – حصرا – مما يؤدى إلى انطلاق التوتر والعنف الاجتماعى على أيدى النشطاء الطائفين بغرض منع أعضاء جماعتهم من إدراك أن هناك ارتباطات أخرى (طبقية أو مهنية أو سياسية..إلخ) تجمعهم بآخرين من خارج هذه الجماعة, وتهديد من ينتمون لهوية مغايرة لايرونها إلا منفردة أيضا.
يقول أمارتيا صن مدللا لماذا يرفض ما سبق من أساطير وأوهام.. أن الانسان تتعدد هويته عبر حياته منذ “الميلاد” وبسبب ما يتعرض إليه من “خبرات” خلال مراحل عمره المتعاقبة, و”الارتباطات” التى يدخل فيها والتى تتنوع بسبب المهنة والاختيار السياسى والذوق الثقافى..الخ, و”التحالفات” التى يشترك فيها ويتضامن من خلالها مع الآخرين الذين قد يكونوا من خارج جماعته, ومن هذه التحالفات: الحقوقية, الوطنية, المدنية, النقابية,…الخ,…
وعليه يكتسب – هذا الإنسان – غنى حقيقيا وافرا يكتشف من خلاله خديعة الاصرار على “وضعه قسرا” فى حزمة عضوية واحدة, بمعزل عن المشتركات الانسانية, التى يمكن أن تجمعنا مع الآخرين من جماعات أخرى, والسياقات الاجتماعية المختلفة .
فكل من المشتركات الانسانية والسياقات الاجتماعية تدعم تجليات مختلفة لمن يعتقدون أنهم ينتمون – فقط لهوية واحدة تجاوزا – .. بلغة أخرى فانه يمكن أن نجد مجموعة من البشر تنتمى للمسيحية أو الاسلام أو الهندوسية ومن المفترض أن يكون موقف أبناء كل ديانة واحدا تجاه القضية الواحدة, ولكننا نجد المواقف تتعدد وردود الفعل تختلف من فرد لآخر – داخل الديانة الواحدة – بحسب ما اكتسبه من خبرات والسياق الاجتماعى الذى ينتمى إليه.. ما يعنى أن الهوية المنفردة التى يراد لنا أن تهيمن علينا إنما تخفى هويات عدة يكتسبها المرء مع الوقت … إن عدم إدراك تعددية الهوية وتجاهل كل شئ إلا الدين أو أى عنصر آخر…الخ, إنما يلغى حقيقة أن الاهتمامات التى تحرك الناس لتأكيد هوياتهم إنما تمتد إلى الكثير من العوامل بالاضافة إلى الدين, والقومية واللغة.
يتناول الاتب هذه الأفكار بلغة تمزج بين البساطة والعمق.. ويدلل عليها بمشاهد من حياته سواء طفلا فى لحظة صدام طائفى.. أو من خلال حياته العملية.. كما يستدعى – بثقافة موسوعية – الكثير من المقتطفات من أعمال أدبية دالة على ما يقول.. هذا بالإضافى إلى الأدلة التاريخية.
صفوة القول, لاتوجد هوية ثابتة وساكنة.. فالهوية تتشكل وتستوعب وتهضم وتتطور .. وبقدر ما تكون منفتحة بقدر ما تتجدد الهوية وتكون وتكون مبدعة.. وبقدر ما تكون مغلقة و “مستغنية” بقدر ما تلجأ إلى العنف والتدمير لانها لا تتحمل أن ترى سواها.. بهذا لا بد من إدراك بأن “الهوية حرية” لا تقيد من ينتمون لها بأوهام: “الانغلاق”, و “التفرد”, و” الأحادية”.. وانما تدفعهم للتحرر من عبودية هذه الأوهام التى قد تؤدى إلى العنف وتدمير الآخرين بصياغة الإنسان فى “قالب قتالى, بحسب أمارتيا صن, دافعة به لتناحرات مؤسسة على وهم الهوية المنفردة.. ومن يبدأ بتدمير الآخرين ينتهى بتدمير نفسه/هويته.