التقدم يقوم على التراكم وليس على القطيعة.. تراكم كفاح المواطنين من أجل الاستقلال والحرية والتنمية.. كذلك تراكم اجتهادات المفكرين فيما يتعلق بالقضايا التى تثار فى لحظة زمنية معينة.. فمن غير المعقول أن تنفى كل حلقة تاريخية ما سبقها من حلقات – بما أنجز فيها من جهد عملى على أرض الواقع وفكر أنجزه المفكرون – وكأن التاريخ يبدأ من عند الحلقة الجديدة.. وأذكر ما قاله أحدهم: “إن من يطلق رصاصة على التاريخ (بالقص أو التوظيف أو النفى أو الانقطاع …)يكون قد أطلق صاروخا على المستقبل”.
وعليه إذا ركزنا حديثنا على الاجتهادات الفكرية التى أبدعها مفكروا مصر فى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين, يثور السؤال: هل من المعقول أن نطرح على أنفسنا كل خمسين عاما أو كل قرن الأسئلة نفسه بحثا عن إجابات؟.. المفارقة أنها الأسئلة نفسه وليست أسئلة جديدة.. والمفارقة الأكبر أن من ضمن الإجابات القديمة كانت هناك إجابات إبداعية تمثل نقلة نوعية فى تاريخ مصر الفكرى يجب أخذها فى الاعتبار والبناء عليها.. فى هذا السياق نشير إلى عبد الله النديم وطه حسين وتناولهما المبدع للمواطنة.. الأول, حيث اقترب من المفهوم بمعناه العام. والثانى, حيث استطاع إدراك أن المواطنة ذات أبعاد متعددة..كيف؟
هاهو النديم فى سنة 1879 يشحذ الهمم لمواجهة قضايا المجتمع مثل تطوير التعليم وأهمية الأخذ بالتصنيع ومواجهة الفقر.. فأعلن عن تكوين ما سماه بـ “عصبية الفقراء”, وخرجت هذه العصبية فى شكل جمعية خيرية هدفت إلى “النفع العام للبلاد, وكوسيلة لتعليم أبناء الشعب فقيره وغنيه, وشد أزر الضعيف منهم حتى تنهض البلاد ويعرف أبناء الوطن, خصوصا الفقراء, حقوقهم وواجباتهم”.
وعنيت الجمعية بالتعليم فأسست مدرسة لتعليم وتثقيف البنين والبنات الفقراء والأيتام منهم مجانا, وذلك “لإبعاد الأطفال عن التعصب لدين أو عنصر وتنشئتهم على الوطنية وحب الإنسانية”. ملمحان يمكن رصدهما:
• الأول: هو التحرك فى المجال العام على أساس “المشترك الاجتماعى” بين الناس بغض النظر عن الانتماء الدينى والمذهبى والعشائرى.. وبهذا المعنى يتجاوز النديم العلاقة بين ذوى القربى ورابطة الدم وأبناء العشيرة الواحدة (بحسب ابن خلدون), ويمكن اعتبار الحركة المشتركة بين المواطنين إرهاصة لبزوغ المواطنة المصرية التى أصبح مجال حركتها كل الوطن, وهدفها تحقيق المصلحة العامة لكل المصريين وليس مصلحة عشيرة أو طائفة دون أخرى. انه نوع من التكافل والتضامن والتعاضد الذى يجمع بين المواطنين بغض النظر عن الاختلافات الدينية والطائفية والعشائرية بينهم.
لقد أدرك النديم أن اكتفاء المرء بالانتماء الأولى يعنى تكون أوطان متعددة فى داخل الوطن الواحد .. بلغة أخرى, فإن انكفاء الفرد على عصبيته الدينية أو الطائفية أو العشائرية على حساب الإطار الأعم, أى الوطن.
• أما الملمح الثانى الذى أكده النديم فهو “الوطنية المصرية” باعتبارها الإطار الجامع للمصريين.. وطنية ليست فى خصومة مع الدين, واحتلت فكرة التنشئة الوطنية موقعا مركزيا فى خطبه وأعماله, والتى من مكوناتها الغيرة والنخوة والمصلحة والحمية الوطنية.
هذا عن النديم. فماذا عن طه حسين؟.. ففى كتاب صدر مؤخرا للعميد بعنوان “الديمقراطية” ضم مجموعة من المقالات التى تنشر لأول مرة وتعود إلى أربعينات القرن الماضى, حيث نشرت معظمها فى جريدة البلاغ (جمعها الباحث الأدبى إبراهيم عبد العزيز وقدم لها) نجد كنزا فكريا واقترابا مذهلا من البعدين الاجتماعى والاقتصادى للمواطنة (وهو ما نظر له عالم الاجتماع البريطانى توماس مارشال (1893-1982), فى كتابه “الطبقة والمواطنة والتغيير الاجتماعى” ويعد الكتاب الأساس لأدبيات المواطنة, حيث أشار إإلى تعدد عناصر المواطنة – مدنية وسياسية واجتماعية – وقد شرفنا أن نكون أول من قدم أفكاره للقارئ العربى فى كتابنا المواطنة والتغيير).. وبالعودة لطه حسين, فماذا قال؟
يقول طه حسين عن المساواة (وهى أحد أهم تجليات المواطنة) ما يلى: “… المساواة لا تأتى إلا بتحقق العدل الاجتماعى, فلا يجوع إنسان ليشبع إنسان آخر, أو ليشبع إنسان ليجوع إنسان آخر”.. “مساواة تجعل الناس سواء أمام الثمرات التى قدر للناس أن يعيشوا عليها”… “…المثل الأعلى للحياة الاجتماعية يقتضى أن يتساوى الناس..”.
ويقول أيضا المبصر الرؤيوى طه حسين: “إن التساوى فى الحقوق والواجبات يجب أن يفهم على معناه الواسع, فالتساوى فى الحقوق والواجبات ليس معناه أن يتساوى الناس جميعا فى أداء الخدمة العسكرية عندما تطلب إليهم, وأن يتساوى الناس جميعا فى التصويت فى الانتخابات لمجلس النواب.. وأن يتساوى الناس جميعا أمام القانون, أمام القضاء, فقط, ولكن هناك نوعا آخر من المساواة ألا وهو المساواة فى القدرة على الاستمتاع بالحياة, المساواة فى القدرة على تجنب الشقاء, المساواة فى أن نشقى جميعا إذا لم يكن بد من أن نشقى, وأن ننعم جميعا, إذ من حق الناس أن ينعموا”.
ويربط طه حسين بين الديمقراطية كنظام سياسى والإصلاح الاجتماعى والاقتصادى, حيث العلاقة وثيقة بينهما, وفى الوقت نفسه يشير إلى ضرورة سعى الناس إلى تحقيق كل منهما.. ما وسعهم السعى.. “فالسعى نحو الديمقراطية والتقدم الاقتصادى والاجتماعى أمر قابل للتطور المستمر لايمكن أن ينتهى ولا أن يصل إلى غاية لا تتعداها”.
لا تقف أهمية النديم و طه حسين عند أفكارهما المبدعة فقط, فلقد نجحا فى جعلها موضع التنفيذ, الأول من خلال جمعيته التى ضمت كل المصريين دون تفرقة.. والثانى من خلال توليه وزارة المعارف فى عام 1950.. فقدما النموذج فى أهمية وجود رؤى مرجعية حاكمة لما نطمح أن نحققه.. وأن الكفاءة التقنية وحدها من دون رؤية مستقبلية لا تستطيع أن تحقق شيئا.
وأخيرا فإن التواصل مع اجتهادات من سبقونا من “بناة المواطنة” والتراكم على ما يمكن اعتباره إبداعا أصيلا لا يزال صالحا للمستقبل ضرورة.. فلا يمكن أن نبدأ من جديد كل دورة زمنية.. كما أن أفكارا مثل “عصبية الفقراء” و “المساواة” ببعديها الاجتماعى والاقتصادى”.. إلخ, جديرة بالأخذ بها فى مناهجنا التعليمية (كتب النصوص) وإعلامنا (برامج متخصصة حول بناة المواطنة) وسياستنا (فى شتى المجالات).. وهو ما اتفق عليه فى حوارات أوروبية جرت مؤخرا حول إبداعات المثقفين فى القديم وفى الحاضر, وأهمية أن تأخذ هذه الإبداعات طريقها لتحقيق التقدم ومواجهة مادية وابتذال القرن الحادى والعشرين.