الاجتهادات النظرية الرائدة فى الحقول المعرفية الإنسانية لا تقل قيمة وأهمية عن الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية المتجددة... ومتى اتسمت التنظيرة الفكرية فى علوم الفلسفة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، بالأصالة والجدة، تتمكن الإنسانية من فهم ذواتها ومجتمعاتها وعوالمها. كذلك اكتشاف غير المدرك فيما يتعلق بالقوى المحركة للتفاعلات والعلاقات المتنوعة والمتشابكة والدافعة لاتخاذ الخيارات
والمسارات المتعددة والمتداخلة...
ويمكن اعتبار الأستاذ الصحفى والمفكر والشهيد إبراهيم عامر (1922 ــ 1976)، الذى عرفنا بسيرته وأهميته فى مقال الأسبوع الماضى، واحدا من أهم المفكرين المصريين الذين أسهموا فى تقديم التنظيرات الفكرية الرائدة. بالرغم من أن كتبه المؤلفة لم تتجاوز الكتب الثلاثة. وقبل أن نتعرض لبعضها نشير إلى ملاحظة تتعلق بالسياق التاريخى الذى ولد ونشأ فيه إبراهيم عامر.
فهو ممن ولدوا فى عشرينيات القرن العشرين عقب ثورة 1919. وتشكل وعيه فى ظل أزمة نخبة 1919 فى عدم تمكنها من إنجاز الاستقلال الوطنى ما أدى إلى تشظيها وإضعاف حزب الثورة وجعل البرجوازية المصرية تلعب خارج الحلبة. فى هذا الوقت، مطلع الأربعينيات، أيقن عامر وجيله، أنهم غير مستوعبين من قبل حزب الأغلبية التاريخى وأحزاب الأقلية (المستقلة أو التابعة للقصر أو المدعومة من الإنجليز). ومن ثم انطلق الجيل الطالع يناضل من أجل الاستقلال من خارج الكيانات التقليدية مدركين ضرورة التسلح بالوعى التاريخى والاجتماعى فانطلقوا يراكمون من رصيد الفكر المصرى الحديث.
كان عامر من ضمن هؤلاء ومعه كوكبة من أهم العقول المصرية التى انحازت يسارا مثل: أحمد رشدى صالح، ومحمد عبدالمعبود الجبيلى، وشهدى عطية الشافعى، وفوزى جرجس، وأحمد صادق سعد، وأنور عبد الملك، وأبو سيف يوسف، ومحمد مندور، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، وفؤاد مرسى، وإسماعيل صبرى عبدالله، ونعمان عاشور، ولطيفة الزيات، وعبد الرحمن الشرقاوى، وجورج حنين، وعبد القادر القط، وعلى الراعى، وكامل زهيرى، وطاهر عبد الحكيم،...(بالطبع إلى جانب جهود التيارات الأخرى مثل جماعة الغد الليبرالية التى ضمت إبراهيم شكرى وإبراهيم مدكور وميريت غالى، والمستقلين ممن راعوا البعدين الاجتماعى والوطنى مثل: مصطفى الحفناوى وصبحى وحيدة وعلى الجريتلى وراشد البراوى ومحمد أمين حسونة وألبرت عشم عبد الملك وعبد الرازق محمد حسن، ويوسف نحاس، وغيرهم)...
فى هذا السياق، نذكر القارئ الكريم بالكتب التى أنجزها: أولا: تأميم القناة: دراسة وطنية بمناسبة تأميم شركة القناة، أغسطس 1956. ثانيا: ثورة مصر القومية: دراسة علمية للحركة القومية فى مصر منذ 1919 إلى 23 يوليو 1952، دار النديم، يناير 1957. ثالثا: الأرض والفلاح: المسألة الزراعية فى مصر، مطبعة الدار المصرية للطباعة والنشر والتوزيع، 1958. ونعرض لأهم ما تضمنه كتاب: ثورة مصر القومية من تنظيرات فكرية رائدة خلصنا إليها فى مقدمتنا البحثية المطولة للطبعة الثانية للكتاب التى صدرت عن قصور الثقافة فى سلسلة الهوية 2021، وذلك كما يلى:
أولا: تجاوز عامر المقاربات التاريخية حول بزوغ القومية المصرية التى رافقت تأسيس الدولة الحديثة فى مصر. فلقد كانت مقاربة عامر نقلة نوعية مثلت إضافة نوعية لمقاربات المدرسة الوطنية فى كتابة التاريخ الأكاديمية ويمثلها محمد رفعت، وصبرى السوربونى، وشفيق غربال، وسليم حسن،...إلخ، وغير الأكاديمية التى يمثلها عبد الرحمن الرافعى، ومحمد فريد، وأحمد شفيق باشا،...
ثانيا: حرر إبراهيم عامر القومية من ربطها القسرى بالبعد الشعورى/الإثنى فقط. فكان متجاوزا كتابات الموجة التأسيسية فى مقاربة القومية. وفى نفس الوقت كان سابقا كتابات الموجة الثانية التى سادت لاحقا مطلع الستينيات من القرن الماضى لمفكرين معتبرين عالميين. وهو ما أكده سمير أمين، لاحقا فى مطلع السبعينيات، بأنه لم يعد بالمستطاع فصل الظاهرة القومية عن تحليل الدولة والمجتمع وحركية القوى الاجتماعية...لذا يمكن اعتبار كتاب عامر نموذجا تأصيليا عن مصر القومية ومكونات جسمها الطبقى والاجتماعى فى مرحلة تاريخية حاسمة من تاريخ العالم.
ثالثا: درس بعناية فائقة العلاقة الثلاثية التى كانت متأججة بين: أولا: القوى الاجتماعية المصرية بتنوعاتها ومواقفها وتحيزاتها، وبين ثانيا: القوى العالمية السائدة آنذاك. ورصد وحلل انعكاس ذلك على مسار الحركة الوطنية المصرية رابطا بين 1919 و1952 باعتبارهما مسارا وطنيا ممتدا ومتعاقبا.
رابعا: أبدع إبراهيم عامر فى رسم خريطة طبقية للمجتمع المصرى هى الأولى منذ محاولة المقريزى (1364 ــ 1442) ــ الوصفية ــ فى كتابه: إغاثة الأمة بكشف الأمة...فلقد قدم لنا عامر خريطة دقيقة للجسم الطبقى المصرى آنذاك ــ مؤسسة على تشريح دقيق لوضعية كل طبقة من حيث: تاريخها، وملكيتها، ونشاطها الانتاجى، ودورها فى العملية الإنتاجية، وانحيازها السياسى، وموقفها من القوى العالمية، وتأثيرها،...،إلخ، ومن ثم أى طبقات يمكن اعتبارها القاعدة للحركة القومية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية لبناء الدولة المستقلة والحرة والعادلة... وعليه أنتج لنا، بلغة حداثية، مصدرا معتبرا وأصيلا لا غنى عنه لفهم التاريخ ومساراته اللاحقة ودور هذه الطبقات فيه. أخذا فى الاعتبار أن حصيلة ما خلص إليه هو ثمرة جهد فردى مقارنة بهكذا جهود تحتاج، فى وقتنا الراهن، إلى فرق عمل بحثية.
وبعد، يحمل كتاب إبراهيم عامر: ثورة مصر القومية، وكتاباه الآخران، أفكارارائدة وتأسيسية حول مصر والمصريين...