قرياقص ميخائيل .. المؤرخ الرائد (2ـ 2)

نتابع اليوم حديثنا عن جانب آخر من شخصية قرياقص ميخائيل ألا وهو تأليفه كتاباً مبكرا صدر بلغة إنجليزية، رفيعة المستوى، عنوانه: أقباط ومسلمون تحت السيطرة الإنجليزية؛ وقد صدر الكتاب فى لندن عن دار نشر إنجليزية سنة 1911 أى قبل 110 أعوام. وفى إطار اهتمامنا المبكر بالشأن القبطى اكتشفنا ريادة قرياقص ميخائيل فى مقاربة الشأن القبطى مقاربة مغايرة للمقاربات السابقة عليه وللمقاربات اللاحقة لمدة نصف قرن تقريبا.

 

ولإدراك أهمية كتاب قرياقص ميخائيل نشير إلى أن هناك ثلاث مقاربات تناولت الشأن القبطى نوجزها فى أولا: المقاربة المواطنية؛ التى تقارب الأقباط باعتبارهم مواطنين. وهى مقاربة حكمت كل من أدرك ماذا تعنى الجماعة الوطنية ومسارها التاريخى على المستوى القاعدي/الشعبى من خلال الحياة اليومية بتفاعلاتها. ثانيا: المقاربة الملية/ الطائفية؛ التى تتعامل مع الأقباط كجماعة دينية. وهى المقاربة التى حكمت الاتجاهات الدينية والمحافظة التى تقرأ التاريخ من وجهة نظر دينية محض. وثالثا: المقاربة الأقلوية؛ والتى تتعاطى مع الأقباط كجماعة سياسية. وهى مقاربة فى الأصل استعمارية واستشراقية تنظر إلى الجماعة الوطنية المصرية باعتبارها جماعات متعددة متنافسة بحسب رؤية كرومر فى كتابه مصر الحديثة وهى الرؤية التى لم تزل حاضرة فى التقارير الأمريكية للحرية الدينية فيما أطلقنا عليه الاستشراقية المعدلة أو الجديدة...فى هذا السياق، يمكن القول إن كتاب قرياقص ميخائيل قد مال كتابه إلى المقاربة المواطنية لأسباب ثلاثة:

أولها: أنه كتب فى أعقاب المؤتمرين القبطى والمصرى اللذين كان يتوقع الاستعمار أن يكرسا تقسيم مصر بفصل من مستويين هما: الأول فصل المصريين المسيحيين عن المصريين المسلمين. والثانى: عزل مصر عن الحركة الوطنية البازغة. فكان حرص قرياقص على أن يضع الحراك المصرى للمسلمين والمسيحيين فى سياق الحركة الوطنية المصرية.

ثانيها: الكشف عن ألاعيب الاستعمار البريطانى ودأبه لإحداث الفتنة، كذلك دور المعتمد البريطانى آنذاك ــ السير الدون جورست وتفنيد تقريره الخبيث وتأكيد سوء أحوال عامة المصريين: المسلمين والمسيحيين منذ حط الاستعمار على أرض مصر زمن توفيق. وتصويب ما كان يمرره جورست للصحافة البريطانية من أفكار ومعلومات مغلوطة.

ثالثها: مارس قرياقص أعلى درجات المهنية الصحفية ــ بالمعنى الدقيق المعاصر للكلمة ــ من حيث الموضوعية والتزام الوطنية المصرية فى عرض أين تكمن الاختلالات مستعرضا نقاشات مطولة فى الصحف المصرية والبريطانية وفى البرلمان البريطانى.

وتكمن أهمية جهد قرياقص فى أنه أسس لمبدأ حق المصريين فى مناقشة أمورهم باعتباره شأنا مصريا دون تدخل خارجى وبمعايير وقواعد اللعبة السياسية والمدنية السائدة. وعليه اعتبرنا كتاب قرياقص إرهاصة للكتابات التى انطلقت من أرضية الجماعة الوطنية على أساس المواطنة. وللفائدة نشير إلى أننا قمنا فى مقدمتنا الدراسية لكتاب جاك تاجر: أقباط ومسلمون منذ الفتح العربى إلى عام 1922 بعمل تصنيف نوعى للكتابات التى قاربت الشأن القبطي(طبولوجيا) أظنها الأولى فى هذا المجال فرصدنا ستة أنواع من الكتابات هى أولا:الكتابة التاريخية الدينية؛ والتى تناولت الأقباط من خلال تطور تاريخ الكنيسة مثل مصر المسيحية لفاولر. ثانيا: الكتابة السردية؛ والتى ينحو كتابها إلى السرد التاريخى مثل كتابات بوتشر، ومنقريوس. ثالثا: الكتابة الأكاديمية الأجنبية والوطنية؛ وأقصد بها الكتابة التى ولدت فى الأروقة الجامعية فى الخارج وفى مصر وأتبعت المناهج العلمية التاريخية البازغة مطلع القرن العشرين مثل كتابات ترتون وسيدة إسماعيل الكاشف وأغلبها كان يعتمد مصطلح أهل الذمة إلى أن خرج عن هذا التقليد قاسم عبده قاسم باعتماد مصطلح الأقليات الدينية فى دراسته للفترة المملوكية ثم كانت النقلة الهامة لمحمد عفيفى باعتماده مصطلح الأقباط كمواطنين مصريين. رابعا: الكتابة من منظور الجماعة الوطنية وهى الكتابة التى قاربت الأقباط فى إطار حركية الجماعة الوطنية ككل. كما ميزت بين دراسة المجتمع الكنسى وحركة الأقباط فى المجال العام كمواطنين. وتحت هذا النوع من الكتابات يأتى كتاب قرياقص ميخائيل المبكر والمتطورة منها لوليم سليمان قلادة وعزيز سوريال عطية وطارق البشرى ومصطفى الفقى التى انطلقت فى ستينيات القرن الماضى. خامسا: الكتابة المجتمعية/ السياقية, التى قرأت حركة الأقباط من خلال منهج التحليل الاقتصادي/الاجتماعي/الطبقى ونموذجها نادية رمسيس فرح وأبو سيف يوسف.سادسا: الكتابة متعددة مستويات التحليل؛ والتى بدأت تأخذ فى الاعتبار الدراسات المقارنة والتحولات الدولية والاقتصادية وتأثيرها على العلاقات والتفاعلات فى الداخل الوطنى كذلك مناهج التحليل المحدثة وأدبيات الحقول المعرفيةالمستجدة مثل:تأثير العولمة على الدولة القومية،المواطنة بأبعادها،جدل الاندماج/التكامل والاستبعاد/العزلة،...،إلخ، وهنا نشير إلى كتابات نبيل عبد الفتاح وكاتب هذه السطور...ولاشك أن هناك حاجة لتطوير التصنيف خاصة مع تدفق موجة من الكتابات فى العقد الأخير تمثل ردة على مسار التطور الذى حققته الكتابات المذكورة...

وبعد، قرياقص ميخائيل نموذج وطنى جدير بالتكريم لدوره الوطنى داخل وخارج مصر والصحفى المهنى والتأريخى...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern